U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

يوم جديد

 

 

 

أشرف الخمايسي

 

 

يـــومٌ جـديـــدٌ

 

 

رؤىً في الحياةِ والكُتُب

 

 

 

  

لأرواحٍ خضراء وقلوبٍ بيضاء.

 

 

 

 

الحياة بسيطة.

 

 

 

 

 

 

 

من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد

الأمَّة الإسلاميَّة بخير، مؤثِّرة في محيطها العالمي، حيَّة على الدَّوام، غير قابلة للفناء، ليست قاصرة على السَّلفيِّين، أو المتصوِّفة، أو الشِّيعة، أو أي مذهب من مذاهبها العديدة؛ تحوي كلّ هذا المزيج الضَّاج بزخم الحياة.

زخم الحياة "كوكتيل" من صراعات ومسالمات، اختلافات وتوافقات، فوق وتحت، يمين ويسار، نور وظلام، سالب وموجب؛ تناقضات تتفاعل لتنتج الحركة.

الحياة قوَّة وضعف بصيران، بينما الموت قوة وضعف عمياوان.

تبغددت الأمَّة الإسلاميَّة قرون مديدة في زهوة القوَّة، فرضت سيادتها رئيسة على العالم المتحضِّر، لها وعليها، في إطار القوَّة البصيرة، لا العمياء. ورزحت في ضعفها منذ مئتي سنة تقريبًا، بعد تكالب الأمم عليها تكالب الأكلة "الطِّفسين" على قصعة ثريد مغطًى بـ"هُبر" اللحم؛ قطَّعوها تقطيعًا، وفتَّتوها تفتيتًا، مع ذلك بقيت نابضة بالحياة، عصيَّة على التَّطبيع، متمسِّكة بجذورها، محافظة على تميُّزها الجوهري، والشَّكلي، لأنَّ ضعفها بصير، ليس أعمى.

القوَّة البصيرة هي القوَّة النَّابعة من الذَّات، لا الأدوات. والضَّعف البصير تتعلَّق أسبابه بالأدوات، لا الذَّات.

قوَّة الذَّات، أو ضعفها، مرهون بما هو روحاني، لا مادِّي.

جذور الأمَّة الإسلاميَّة ضاربة في فكرة الحريَّة، فلا إله إلا الله، الله هو المطلق في الإسلام، لا يمكن تَخيُّل كينونته، ولا الإحاطة به، أو بطرف منه، مهما حاول العقل ذلك؛ ليس كمثله شيء.

عبادة ربٍّ ذي صفات مطلقة بمثابة تدريب عميق على ممارسة الحريَّة القراح.

ولخص أحد الفاتحين، من الصَّحابة الأفذاذ، غاية هذه الأمَّة في بضع كلمات: إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.

جملة تُحدِّد بجلاء معالم الطَّريق إلى الحريَّة. لا السَّعي لإيجاد أسواق إقليميَّة كبرى تربو فيها قيمة العُملة لتتحوَّل إلى إله اقتصاديٍّ يتقرَّب إليه العباد زلفي في البنوك!

تعظيم المادَّة أقصر طريق إلى العبوديَّة.

يُميِّز الأمَّة الإسلاميَّة تمسُّكها بدينها هاديًا نَيِّرًا في مختلف دروب الحياة، خاصّها الإنساني، وعامّها المجتمعي، سلوك الفرد، وسياسة الحكَّام.

"الغباوة" طبع يُميِّز أمَّة الإسلام أيضًا! إذ أنَّ طريق الرِّيادة واضح لرحلتها، منصوص عليه في كتبها المقدَّسة، لكنَّها تتنكَّب هذا الطَّريق إلى آخر يرمي بها خلفًا لتتأخَّر فترات زمنيَّة طويلة عن ركب التَّقدم.

جاء الإسلام رافضًا الإمَّعة؛ هذا الشَّخص المنقاد لما يعرِض له دون بيِّنة، آمنًا بقطيعه، يُحسن إن أحسن، يُسيء إن أساء! يُجل مقولات الآباء الأوَّلين حد التَّقديس، مبلغ دفاعه عن أي رأي يعتنقه أن يقول: وجدنا آباءنا على ذلك.

منهج الإمَّعة منهج موات، يؤدِّي إلى تكلُّس المجتمع وركوده.

جاء الإسلام حاضًّا على التَّفكير.

التَّفكير عملٌّ عقليٌّ قائمٌّ على الرَّفض قبل القبول، الشَّك قبل اليقين، النَّفي قبل الإثبات، يقوم به الإنسان نفسه، لا نائب عنه ولا وكيل ولا كفيل، فكل جمجمة وُجدت في هذا العالم مُزوَّدة بأداة تفكير تخصّها؛ من فروض الإسلام استعمال هذه الآلة المدهشة، الآلة الآية، العقل. 

التَّفكير نقد. النَّقد سدّ خلل، ترميم، ومن ثمّ تجديد.

كل منهج فكري، أو عقائدي، لم يُنتج برنامجه النَّقدي إلى زوال، أو في أحسن الأحوال إلى ضعفٍ وهوان.

البرنامج النَّقدي الذي رافق الإسلام هو "الاجتهاد"، عندما فعَّلته الأمَّة الإسلاميَّة سادت بقيَّة الأمم. وذلَّت مُذ "ضربت الطَّرشة" تجاهلته، وركنت للقديم المتهالك تُقدِّسه كما لم يُقدِّس "أجدعها" إمَّعة كلام أتفه أبٍّ من الآباء الأوَّلين!

قيل إنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، شخصيًّا لا أشكُّ في صحَّة هذه المقولة. لكن أيّ إسلام؟

هل هو الإسلام الذي جاء به نبيُّنا "محمد"، أم الإسلام الذي راكمه الفقه على مدى مئات السِّنين؟

إسلام نبيُّنا فاعلٌّ متمرِّدٌّ معظمٌّ للإنسان، لا قداسة فيه لغير الله، فهمه المسلمون الأوائل هكذا، فكان طبيعيًّا أن يعلن بعض الصَّحابة تذمُّرهم من بعض تصرُّفات النَّبي، صلوات الله عليه وتسليماته، درجة إقدام "الفاروق" على جذبه من قميصه، رافضًا رغبة النَّبي في الصَّلاة على كبير المنافقين، حتَّى أنَّ ياقة القميص تركت أثرًا في رقبته الشَّريفة من شدَّة الجذبة، ومع ذلك لم يخرج أيٌّ من الصَّحابة لينهر "عمر بن الخطَّاب" على سوء أدبه مع "رسول الله"، كما لم يعلن النَّبي فسق أو كفر صاحبه لهذه الإساءة، بل قال: لو كان نبيٌّ من بعدي لكان "عمر".

اتَّسموا بعزَّة الإسلام المتمرِّد، وضعوا الله وحده في بؤرة القداسة ففتحوا العالم عريق الحضارة في سنوات قليلة، وأقاموا بدورهم حضارة عريقة أيضًا.

هذه ثمار الإسلام الذي ارتضاه "محمد بن عبد الله" لأمَّته. بينما ثمار الإسلام الذي ارتضاه الفقهاء لنا مُرَّة، معطوبة، لأنَّ إسلامهم يحضّنا على كسر شوكة التَّمرد، ترويض القلب على الذِّلة والخنوع وقبول الظُّلم، تقديس الأشخاص، وأنَّ الدُّنيا ليست للمسلمين مثلما لن تكون الآخرة للكفَّار!

في الآخرة سيدخل الفقراء الجنَّة قبل الأغنياء بخمسمائة عامًا كاملة! و"يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم". وإيَّاك والتَّفكير خارج القفص المحبوس فيه عقلك، خارج القفص جوارح ستفتك حتمًا بعقلك "العصفوريّ" الضَّعيف، فـ"لم الدُّور"، و"اتنيِّل على عينك" وعش غبيًّا مؤمنًا بأنَّ الغباء، أو التَّفكير على القضيبين المحدِّدين لنُهيتك، هو ما سيضمن لك حسن الخاتمة. واحذر التَّأمل في ما ثبتت عليه الأفكار العقائديَّة، فقد يؤدِّي بك التأمُّل إلى الاستنكار، ما قد يجرّك إلى الإنكار، و"إنكار ما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة كفر"، مع أن هذا المبدأ نفسه لو بقي راسخًا في قلب "أبو بكر"، أو "عمر"، أو "علي"، أو "عثمان"، أو غيرهم ممَّن كانت عقيدتهم عبادة الأوثان، لما تركوها إلى الإسلام! ولا تعترض على الأئمَّة أو المشائخ، فلحومهم مسمومة، أو ملغومة! وإنما إذا سمعت لغوهم سارع بتقبيل جماجمهم المبروكة، وإن شئت أحسن الإيمان ادَّهن ببصاقهم!

إنَّه إسلام غير الذي جاء به نبيُّنا واعتقده الأوائل فرفعوا الأمَّة إلى علِّيين، بل إسلام الأواخر الذين دفعوا بنا إلى أسفل سافلين.

ضعف هذه الأمَّة بصير، لذلك ستنهض من كبوتها لا محالة، ستحاسب الفقهاء والمشائخ الإمَّعات، مقدِّسي الآباء الأوَّلين، ستمتن لـ "مجتهدين" يضعون العقل في المكان الذي اختاره الله له، المكان الأكرم من جسد الإنسان، أعلاه، يُعملونه مقياسًا لا يخيب، يستخدمونه طريقًا منيرًا هاديًا إلى الله الخالق، مُعظِّم الإنسان. وقتها لن تخرج صديقتنا "الفلانيَّة"، ولا صديقنا "الفلاني"، ولا عدونا "العِلَّاني"، ولا "الفلتكاني" نصير جمعيَّات الرِّفق بالحيوان، لتجعر حناجرهم يوم الأضحى بكاءً على الخراف، مُطلقين على طقس إنسانيٍّ تعبديٍّ بديع مصطلح "مذبحة"، قاصدين ما يحمله هذا اللفظ من معنى الإهلاك والإفناء، في حين ترى عيونهم أنه لا إفناء هناك ولا إهلاك، فالمسلم لا يذبح "الخروف" لمجرَّد الاستمتاع بالذَّبح ثم يرمي بجثَّته في صندوق "زبالة"، بل يذبحه ليحوِّل لحمه، مجَّانًا، إلى رسائل إنسانيَّة سامية، تحمل الحبَّ والودَّ والتَّرابط والرَّحمة.

ثم إن عدد الخراف، مع كل هذا الذبح، في زيادة مطَّردة، لا إلى انقراض.

لكنَّه ضعف الأمَّة الإسلاميَّة جرَّأهم على الابتزاز، بينما قوَّة غيرها أخرسهم عن توجيه اللوم إليها بينما تستمتع بأحقر ما يمكن أن يمارسه بشريٌّ ضدّ الحيوان، عندما يلهو به "الميتادور" موجِّها سهامه، بأناة ودقَّة، إلى قلبه، كي يقتله قطعة قطعة منتشيًا بصيحات الجماهير المتحضِّرة! تخرس ألسنتهم عن آلاف المجازر التي تذبح يوميًّا عشرات الآلاف من الأبقار، وغيرها، تبيع لحمها لمن يستطيع الدَّفع، فإذا لم تجد من يدفع حدَّ تحقيق الرِّبح الفاحش ألقت باللحوم في المحيط، وليذهب الحيوان، ومن قبله الإنسان الفقير، إلى الجحيم، لأجل الحفاظ على سعر السُّوق، وقيمة العملة! كما تخرس ألسنتهم عن الطُّقوس التَّعبدية التي تقوم فيها العديد من الأمم الأخرى بذبح مختلف الحيوانات والطُّيور تقربًا إلى الله، أو إلى آلهتهم!

الطَّرف المهتز بالصَّدمة الحضاريَّة غاضّ عن كل هذا، ومع ذلك تبقى هذه "الهوجة" الحوليَّة، ضد أضحية المسلم تحديدًا، أحد أدلة صحَّة ما بدأنا به هذه الورقة؛ عندما قلنا إنَّ الأمَّة الإسلاميَّة مؤثِّرة في محيطها العالمي، حيَّة على الدَّوام، غير قابلة للفناء.

لا أحد يقف ليُبكِّت ميتًا، أو يهتم بـ "التَّنكيد" على هملٍ لا قيمة له.

 



إبراهيم وزليخة

خرجت "زليخة" من شرنقة طفولتها إلى اكتمال أنوثتها بنتًا باذخة الجمال. كانت القرى المصريَّة، منذ أربعة عقود تقريبًا، جزرًا منعزلة عن المدنيَّة، لا كهرباء تسري في عروقها، لا وجود للتِّليفزيون وما شابهه من أجهزة التَّسالي، فكان الشَّباب إذا ما انتهوا من أعمال الحقل والزِّراعة، ورعي البهائم، يتجمَّعون زمرًا للتَّسامر تحت أشجار السَّنط وجدران المساجد في الرَّحبات الواسعة، أو للعب كرة القدم على حدود المقابر. أمَّا البنات فيتلهَّين بصناعة العرائس من فتات القطن وبواقي القماش والفضلات العالقة بفلَّاياتهن بعد تسريح شعورهن؛ تحتفظ "زليخة" بعرائسها في خزانة قُدَّت من الطِّين المخلوط بالقش، موضوعة في ركن من سطح البيت، في هذا الرُّكن تقف لتتنسَّم عبير الحقول، تملأ عينيها بأسراب الحمام الجبلي الحُر المتقلِّب في السَّماء، تسبح في أثير الشَّمس المضيء، ثم تلعب بعرائسها، تمارس دور الأم فتهدهدها، تزجرها، تحضنها، أحيانًا تصفع وجوهها بحنِّية تُعلِّمها الأدب!

من قرية بعيدة جاء مدفوعًا بالذي سمعه عن حُسْن "زليخة"؛ اسمه "إبراهيم"، جميل الصُّورة، العمامة على رأسه مزهَّرة ومحبوكة، الجلباب من صوف إنجليزي غالي الثَّمن ينسدل مفرودًا على طوله وعرضه؛ طلب يدها من أبيها، بعد أسابيع استحوز عليها ليستقلَّا القطار إلى "مصر" أم الدُّنيا، بين الأمتعة كرتونة محشوَّة بعرائسها. "إبراهيم" طموح، "القاهرة" مدينة الطَّامحين، إذ المتاجرة في ترابها تحقِّق مكاسب كبيرة! سكنا في حوش من ضاحية "عزبة النَّخل" بالأجرة الشَّهرية، وصار يسرح نهارًا في أنحاء المنطقة يحمل قفصًا على كتفه يبيع الطُّيور، ويسرح ليلًا في أنحاء "زليخة" يشتري المتعة.

"إبراهيم" طموح وغيَّار، يغير على امرأته من الهواء الطَّائر، غار عليها من عرائسها التي انتشرت في كل أركان الحوش، تُكلُّمها بهمس مليء بالحنان والميوعة، وتُكلِّمه بصوت منضبط حدّ الجفاف! كأنَّه لا يعرف بنات قرى الصَّعيد الجوَّاني! خجولات جدًّا، لدرجة لا تمكِّنهن من تطرية أصواتهن في حضرة رجال وإن كانوا أزواجهن! ولأنَّه في "مصر" أم الدُّنيا، بلد النِّساء الملبن، أصواتهن مزِّيكا تُرقِّص القلب، طالبها بالتَّخلص من الحنجرة الصَّعيدية والتَّحلى بأخرى قاهريَّة؛ "زليخة" تحب "إبراهيم"، حاولت ترضيته، لكن القضيَّة قضيَّة طبائع، لا حناجر، بقي صوتها يحن ويلين لعرائسها أكثر ممَّا يحن ويلين لـ"إبراهيم"، فظلَّ مزاجه مُعكَّرًا، أكثر العتاب، العتاب هيَّج الغضب؛ في ليلة عاتية الغضب ترك "إبراهيم" "زليخة" في الفراش وانفلت نصف عارٍ إلى خارج الغرفة كعفريت، جمع كلَّ العرائس في أحد أركان الحوش وأحرقها.

مذ تلك الليلة صارت مقلِّة في الكلام معه، أحرق عرائسها في بلاد الغربة، لم تعد مستبشرة، عندما يطالبها بحقِّه الذُّكوري تؤديه بجسد صامت؛ مع كل ذلك أنجبا ولدين وبنتًا، وكان قد تمكَّن من شراء قطعة أرض، ضرب حولها سورًا يؤكِّد ملكيَّته لها. الدُّنيا زهزهت، انسلَّ نورها إلى قلب "زليخة" رغمًا عنها فنسيت تدريجيًّا عرائسها المحروقة، واستبشرت، واصلت حبَّ "إبراهيم" على طريقة الأنثى الجنوبيَّة؛ تقف خلف رجلها في الحلوة والمرَّة، تربِّي عياله، تستر عرضه، تحفظ ماله، تداري على حاله، تفرد جسدها تحته دون تأوُّه أو غنج!

"إبراهيم" طموح، الطَّموح صبور، الصَّبور لحوح؛ رغم مرور السِّنين ظلَّ يطالبها بتغيير الحنجرة واستبدال الطَّبع كي تكون أنثى مشبعة؛ إنَّها حتَّى لا تقترب منه في العادي لتُقبِّله، لا تحن لحضن دافئ، وهو دوَّار بطيوره بين نساء "القاهرة"، إنَّهن يغنجن ويتمايسن في الأسواق، فكيف بهن في غرف النَّوم؟ قلبه يغتاظ جدًّا، ثم لا يفعل غير الغيظ، يكتم في نفسه، ولا يفكِّر في الخيانة؛ فـ"زليخة" حلوة، طيبة، أصيلة، بنت بلده، لكن "الحلو ما يكملش".

قال لها: اشتقت للصَّعيد يا "زليخة". سأسافر أقضي يومين هناك وأعود.

قالت له: أسافر معك.

قال: ومن يرعى الطُّيور أكل عيشنا؟

قالت: سافر وحدك.

قال: سآخذ الولدين أعرِّفهم على أهلهم وناسهم هناك.

قالت: لا تأخذهما، صغيران على السَّفر دون أمّهم.

قال: يتهيأ لك.

صياح الولدين فرحًا أنهى الكلام لصالح أبيهما.

في نهار الصَّعيد مشى "إبراهيم" بالولدين بين البيوت فرحانًا بإنجازه، صار رجلًا يملأ العين، طول بعرض وجيبه عامر، له بيت مِلك في "مصر"، وولدان نظيفان ينطقان باللهجة القاهريَّة مثل أولاد الذَّوات في "التِّليفزيون"!

في الليل نام الولدان في حجرة خارج بيت جدِّهما، وتسامر "إبراهيم" مع بعض الرِّفاق القدامى، وبينما يغالب ضحكه رأى أفق الشَّرق يتحوَّل لونه من الأسود إلى الأرجواني! ما زال الفجر بعيدًا، يستحيل الشُّروق الآن، لكن سرعان ما رأى لسان نار يتصاعد كأفعى مخترقًا السَّماء، كتم ضحكته، وعربد قلبه بالفزع، ساخت ركبتاه؛ بيت جدّ ولديه غاطس في الأفق الأرجواني المشتعل.

أُبرق لـ"زليخة" بضرورة السَّفر إلى الصَّعيد؛ قلب الأم حسَّاس، طوال رحلة القطار، التي امتدت لأكثر من ثماني ساعات، ظلَّت تُفكِّر في أيِّ مصيبة من الممكن أن تكون قد حاقت بأحد أعزًّائها؟ لكنَّها لم تفكِّر، ولو للحظة واحدة في أن ولديها، الإثنان، أكلتهما النِّيران!

تحطَّم قلب "زليخة" إثر حادثة احتراق ابنيها، آية التَّحطُّم أنَّها لم تصرخ، ولم تبكِ، بل وقفت مشدوهة، تنظر إلى بقايا الغرفة وقد سوَّدها الهباب، و"إبراهيم" داخلها يحرق عرائسها! وهما يستقلَّان قطار الحزن إلى "القاهرة"، يهتز جسداهما برتابة بائسة، خرجت "زليخة" من صمتها وهمست لـ"إبراهيم": أنت أحرقت عيالي أيضًا.

تحوَّلت إلى امرأة قبيحة، لا تخلع الملابس السَّوداء، لا تستحم، لا تسرِّح شعرها، يأتيها "إبراهيم" ليلًا في فراشها، مجبورًا بنزوات الاشتهاء الجنسي، فتعطيه جسدًا ميتًا، وقلبًا تفوح منه رائحة احتراق لحم الولدين، يؤدِّي الغرض، يخرج من الغرفة ملغَّمًا بالنَّكد، يدور في الشَّوارع بدرَّاجة تحمل قفص طيوره وروح مثقَّلة بالهم؛ سعادة الرَّجل ليست في الأموال، ولا في العيال، وإنَّما في زوجة بهيَّة تتأنَّق وتتألَّق، و"زليخة" كئيبة آخذة في الأسن والتَّعفُّن، غير أنَّه قرَّر الصَّبر إلى المنتهى.

استمرَّت تسيء لـ"إبراهيم" أكثر من عشرين سنة، تواصل الابتعاد، تغرق في سرحاتها الشَّاذة، تلبد في صمتها، تفزع أحيانا وهي تصرخ: النَّار. النَّار.

مع الوقت نست أنَّ زوجها رجل يجب منحه ولو القليل من الاهتمام، لكنَّه لم ينس تعنيفها، لا يمر يوم إلا ويزعق فيها، يلومها، يُبكِّتها؛ هل هناك امرأة تنسى أنوثتها لأكثر من عشرين سنة؟! لكنَّه لم يفكِّر في استبدالها بامرأة تُبهج قلبه، ولا حتَّى بالزَّواج عليها! "زليخة" معذورة، موت الضَّنا يذبح، فكيف إذا احترق؟

ـ "زليخة".. هل تُحبِّين زوجك؟

ـ كيف أحبُّه وهو السَّبب في موت ولديّ؟!

ـ إنَّهما ولداه كذلك، وحزين عليهما.

ـ حزين؟! أين؟ ذا كل همه شغل الليل، عديم الإحساس يريدني أتزيَّن له وأمتِّعه بعد كل الذي جرى!

ـ حقه، حرام عليكِ.

ـ يتزوَّج، أنا لن أمنعه.

ـ يبدو أنَّه يحبُّك ولا يرى غيرك.

ـ يحبّني؟ قبر يلمُّه، البارد.

منذ شهر جرت في "الجُبيرات"، إحدى القرى الكبيرة من مركز "طهطا" في محافظة "سوهاج"، وقائع نهاية رائعة لإحدى أعظم القصص الإنسانيَّة. إذ علت "سرينة" سيَّارة "تكريم الإنسان" مخترقة شوارع القرية قادمة من "القاهرة" تحمل جثمان "إبراهيم" متَّجهة إلى المقابر.

كانت "زليخة" قد وصلت بالقطار، دخلت بيت العائلة المكلومة بموت ابنها، الذي لم يتوقَّف طموحه رغم دنوّه من سبعينيَّات عمره، استقبلتها النِّسوة بالصُّراخ، استقبلتهن بالصَّمت قبل أن تدخل إحدى الغرف لتستريح قليلًا من عناء السَّفر.

لم يكن عناء رحلة القطار هو سبب إجهادها، ربما عناء رحلة الحياة، عاشت حياة طويلة في بؤس لم تعرف سببه! كان "إبراهيم" ابن الحياة، يريدها غنَّاجة، وكانت بنت بيئة الجفاف، تُقدِّم الخير ملفوفًا بالجمود، ربما لو أنَّها تخلَّت عن الحنجرة اليابسة لما احترقت عرائسها؛ هي من أحرقت العرائس في بلاد الغربة! لو فتَّشت قليلًا لربما اكتشفت أنَّها هي من أحرق الولدين! ظلَّت لأكثر من ثلاثين عامًا تحرق قلب الرَّجل "أبو جسم طول وعرض" حتَّى مات! 

فيم أخذت تُفكِّر أيضًا وهي ممدَّدة في فراشها؟ ربما في أن "إبراهيم"، مع كل أفعالها الرَّديئة لم يتزوَّج عليها، ظلَّ طوال كل هذه السِّنين عاقدًا الأمل في صحوة قلبها، لكن قلبها لم يفعل!

فليفعل الآن.

قبل غروب شمس نفس اليوم، حلَّقت أسراب غربان في سماء الجبَّانة مُتَّجهة إلى وكناتها بين جريد النَّخيل، أسراب قرادين تلمع ببريق الذَّهب تحلِّق في نفس السَّماء، الحفَّار يفتح باب نفس المقبرة، مرَّة ثانية، في نفس النَّهار، ليضع جثمان "زليخة" في العين المجاورة لجثمان "إبراهيم". 

 

  

القارئ المِثالي والقارئ المِثلي

لا أتمكَّن من القراءة بسرعة، رغم أنَّ الكتاب، أيّ كتاب، لن يخرج عن كلمات تراصَّت لتكوِّن جُملة، وجُملًا اصطفَّت لتبني فقرة، وفقرات توالت لتنشيء فصولًا، وفصولًا تتابعت لتوضِّح فكرة.

وأتخيَّل أنَّ القارئ المثالي هو من يقرأ الرِّواية كأنَّه يكتبها، منتبهًا إلى كيفيَّات دمج الكلمة بالكلمة، والجملة بأختها، والفقرة بالفقرة، حتَّى تمام فصولها.

كما أتخيَّل أنَّ الرِّوائي المثالي هو من ينجح  في تشتيت انتباه هذا القارئ عن سرّ تراكيب الكتابة، عندما تبلغ تراكيبه من الرَّوعة حدّ خلق أسلوب أخَّاذ، يُصوِّر الحالة الشعوريَّة لأبطال روايته، ظاهرها وباطنها، لتتحوَّل من حالة هلاميَّة متطايرة كالدُّخان داخل وجدانه، كمبدع، إلى صورة ثلاثيَّة الأبعاد تخطف ذهن القارئ فلا يدرك إن كان لا يزال مجرَّد مُتابع للرِّواية أم صار أحد أبطالها المُحرِّكين لأحداثها.

إذًا، قد تكون القراءة الصَّحيحة اشتباكًا سلميًّا عنيفًا بين كاتب يمارس السِّحر وقارئ يسعي لتعلُّمه!

وأظن أنَّ جمجمة القارئ المثالي معبَّأة بعقل مرن، مثل عقل فيلسوف، يحاور ما يقرأ، يستمتع بالاختلاف، يستمرئ المجادلة، لا يخشى الشَّك، يؤمن بأنَّ الأفكار متغيِّرة، وأنَّ القيود، في الأساس، وُضعت لدواجن الحيوانات ولمجرمي البشر، أمَّا سيِّد الحيوانات فيبقى طليق الغاب، والإنسان الحرّ يتمرَّد.

ربما تمرُّد "آدم" للحظة، عندما أكل ممَّا أُمر بألا يأكل منه، هو الذي منحه الاستخلاف الإلهي على الأرض، وجعله بطلًا لتراجيديا إلهيَّة بالغة العبقريَّة!

سأل "إبراهيم" ربَّه أن يُريَه كيف يُحيي الموتى، فكشف الله خبيئة نفس أبي الأنبياء بأن ردَّ على سؤاله بسؤال: "أو لم تؤمن؟". لم ينكر أبو الذَّبيح وجود شكٍّ "يلعب في عبّه" فقال: "ليطمئنّ قلبي". ومع ذلك لم يعنِّفه الله، لم يعزله عن مقام النبوَّة، لم يقلبه شيطانًا، بل زاد في تكريمه ليكون من نسله كلّ الأنبياء أولي العزم!

كثيرًا ما تصرَّف "ابن الخطَّاب" بما يُمكن وصفه "جلافة" إزاء بعض القضايا الدِّينية، والمجتمعيَّة، في حضور النَّبي الخاتم "محمَّد بن عبدالله"، بل تعرَّض النَّبي نفسه لما يُمكن اعتباره "فظاظة" عُمرية قحُة، حيث جذب ثيابه مرَّة ليمنعه من الصَّلاة على كبير المنافقين، ولامه على خروج أمَّهات المؤمنين من غير حجاب أكثر من مرَّة، وردَّ بشيره عن المسلمين مرَّة أخرى، بل ردّ حدَّ الله في عام الرَّمادة، فلم تنزل فيه الآيات لتوبِّخه، بل وافقته! ولم يلحقه غضبٌ نبويٌّ ماحق، بل كان جزاؤه التَّكريم العليّ، والذِّكر السَّنِيّ، فصار من البديهيَّات اعتقاد  المسلم أنَّه لو قدَّر الله نبيًّا بعد "محمَّد بن عبدالله" فلن يكون سوى "عمر بن الخطَّاب".

لم يلمع فكر فيلسوف ارتضى فكر سابقه، ولم تتقدَّم أمَّة آمنت بالقديم منهاجًا، ولم يتَّصف أحدهم بالعبقريَّة إلَّا لأنَّه ضرب المألوف في مقتل ليطلع على النَّاس بفكرة تشبه أفكار الجنِّ والعفاريت من فرط حداثتها!

الجديد المدهش عادةً مرفوض، إذ أنَّ أكثر من في الأرض قرَّاء "مثليِّين" يتَّبعون غواية الضَّلال، تلك المتمثِّلة في محبَّة الأفكار "الشَّبيهة"، حتَّى لو كانت قديمة آسنة، فهي التي خبروها وعرفوها درجة العشق اللصيق، بينما القليل قرَّاء "مثاليُّون"، يقرأون الكتب والرِّوايات كما يجب أن تُقرأ، بعقول ليِّنة، مسالمة، طيِّعة، مرنة، محاوِرة، قادرة على احتواء الجديد المدهش، المختلف، المستفز عادة.

والرِّوائي المثالي لا يؤمن بفكرته، إذ لو آمن بها تستعبده، بينما يجب أن يكون ربُّها الذي كلّ يومٍ هو في شأن من شؤون التَّأمل والتَّفكير.

على هذا أخال الرِّوائي المثالي خالقًا، الخلق ألوهيَّة، ليس الخلق دائمًا هو الإيجاد من العدم، فقد قال "القرآن" إنَّ "المسيح" "يخلق من الطِّين كهيئة الطَّير"، يكرِّم الله مخلوقه "آدم" فينسب إلى بعض ذرِّيته صفة الخلق الإلهي، لكن أكثر من في الأرض قرَّاء "مثليِّين" يستعيذون بالله أن يكون الإنسان خالقًا! لأنَّهم لا يقرأون بطيئًا، وإنَّما "كَروَتَه"، وقد وضعوا في عقولهم كاميرات مراقبة، تُمرِّر ما "يماثل" فكرها المبرمج، وتُطلق صفيرًا تحذيريًّا عند اكتشافها للمُختلف فتلفظه دون أي محاولة تفاهم!

مثل هؤلاء القرَّاء ليسو غير لبنات عصريَّة تُضاف إلى بناءٍ رثٍ متهالك، مهما كانت حداثة هذه اللبنات فإنَّ البناء يبقى قديمًا، عتيقًا، تسفي عليه رمال الدُّهور.

لم يتَّفق الإنسان، في كلِّ العالم، على ثابتٍ وحيد، سواء كان هذا الثَّابت عقيدة، أو فكرة، أو أخلاق، أو حتَّى إله، لذلك يُدرك القارئ المثالي ضرورة القراءة بطريقة حرَّة، فالحريَّة هي الأداة الوحيدة الصَّالحة للاستدلال على جودة الكتابة!

الثَّابت الوحيد الذي اتَّفق عليه الإنسان هو ذات الإنسان! إنَّه المرئيُّ والملموس، لا يُأوَّل، ولا يتيه الفكر فيه، إنَّه موجود نصب عيني القارئ المثالي، رمَّانة ميزانه أثناء القراءة، كما كان رمَّانة ميزان الخلق الإلهي.

إذا كانت التَّفرقة بين كيفيَّتي تناول عقلَيْ قارئ "مثالي" وقارئ "مثلي" للكتاب مجهدة نوعًا ما، فإنَّ التَّفرقة بين طريقتي تعبيريهما عن هذا التَّناول عند كليهما سهلة. القارئ "المثالي" يهمّه طريقة بناء الرِّواية، أو الكتاب، يتذوَّق اللغة، يستمتع بالأسلوب، يتأمَّل البناء، الفكرة آخر ما يهتم به، لأنَّها إن جاءت على ما يُوائم عقله فيها ونعمت، وإن لم فهو مستعدّ لمناقشتها، فتجده يسجِّل رأيه جادًّا ثريًّا، يتكلَّم عن عناصر الصَّنعة أولًا، يُحدِّد إلى أي مدى راقته، أو لم ترقه، فيعطي الكتابة مُستحَقَّها، ويعطي الكاتب نصيبه اللازم من الثَّناء عليه، والاعتراف بجميله، فإذا عرَّج على الفكرة التي لا تروقه تناولها باحترام مُبديًا أسباب عدم استقبالها بحفاوة، يناقشها بذكاء. إنَّه قارئ يضع نفسه في مقامها العالي كعنصر يُحقِّق هدف العملية الإبداعية برمِّتها.

أما القارئ "المثلي" فإنَّه يسجِّل رأيه مخنَّثًا مثله، معطوبًا بالميوعة التَّعبيرية، لايتمكَّن من كتابة جملة أدبيَّة نقديَّة ذات مروءة، لا يعرف ما اللغة، ما الأسلوب، ما البناء، جلّ همّه الإساءة للكتاب وكاتبه، فقط لأنَّ الفكرة لم ترقه، إذ جاءت على خلاف الفكرة التي "تُشبهه"، سواء كانت عقائديَّة، أو أيديولوجيَّة، أو مجتمعيَّة، أو أخلاقية، ولأنَّ صراحة التَّعبير الأدبي قد هتكت ستر أخلاقيَّاته المدَّعاة، يأتي اعتراضه، وهو الأخلاقيّ، بألفاظ سوقيَّة قد يستحي دهماء الأمِّيين من التلفُّظ بها!

الكاتب "المثلي" يكتب ما يوافق هوى القارئ "المثلي"، "طلبت معاهم دين يدّيهم دين"، "طلبت أخلاق يدّيهم أخلاق"، "طلبت سياسة يدّيهم سياسة"، "طلبت حب خدوا حب"، المهم نوال رضا أكبر عدد من القرَّاء، إنَّهم من يشترون نسخ مطبوعته، من يضعونه في قوائم الأكثر مبيعًا نجمًا لامعًا.

القارئ المثالي، الباقي على امتداد الزَّمن، يعرف أنَّ هذا الكاتب المثلي، على الحقيقة، ليس غير فقَّاعة هواء برَّاقة، تنفقئ بسرعة.

لا مصير للفقاقيع غير الانفقاء.

 

 

 


أساس الالتباس 

تجديد الخطاب الدِّيني.

ثلاث كلمات تراصَّت برشاقة، دون أي زيادة من حراشيف لغويَّة، كحروف الجر أو السَّببية، أو ظروف زمانيَّة ومكانيَّة، أو حتَّى اسم "غِتِت" من أسماء الوصل.

إنَّها جملة صافية، بسيطة، ومع ذلك مرعبة للغاية!

تُرهب التَّنويريِّين، وتُرعب المُتديِّنين! الطرفان المغرمان بتجاذب أطراف هذه الجملة داخل محافلهما التَّفكيرية، والتكفيريَّة.

التَّنويريون يرون أنَّ أزمة كبيرة تمر بها مجتمعاتنا الإسلاميَّة الشَّرق أوسطيَّة، العربيَّة بالخصوص، منذ عقود طويلة، المُتسبِّب فيها عقل إسلاميّ ارتضى تكبيله بأفهام ما قبل القرون الوسطى، فلم يحاول مواكبة العصور المتوالية، الصَّاعدة بالوعي الإنساني إلى مراحل فهم متقدِّمة، بل يجري العكس، حيث يبذل هذا المسلم الأصولي محاولات مستميتة لشد لجام الزَّمن كي ينحرف بالعصر الحديث متِّجها به إلى الوراء! وهذا ما لا يجب أن يكون، لأنَّه مخالف لضوابط أي عقل يعمل بـ"ألف باء" تفكير، كما أنَّه ضد السُّنن الطَّبيعية التي قام عليها الكون.

أسّ أساس السُّنن الطبيعيَّة: النُّمو والتطوُّر، لا الثَّبات "محلَّك سر"، فضلًا عن الحركة "للخلف دُر"!

لذلك يطالبون بضرورة "تجديد الخطاب الدِّيني".

مطالبة مُرهبة قطعًا، إذ يجهر بها التَّنويريُّون في وسط يهدر بمئات الملايين من المسلمين المنغلقين فكريًّا على ثوابت عقائديَّة لم ينزل معظمها من السَّماء، وإنَّما تنزَّل من عقول بشريَّة لأئمَّة عاشوا منذ ما يزيد على 1400 عام من الزَّمان! أئمَّة حاربوا التَّزمت الفكري وقتها، وأعملوا عقولهم في النُّصوص، منهم من أفتى بعد أن غاص إلى أعماقها، ومنهم من أفتى دون تجاوز سطحها، لكنَّهم جميعًا انتبهوا للتَّحذير الذي جاء به الإسلام فيما يخص عدم تقديس فكر "الآباء"، فإذا بمسلمي العصر الحديث اتَّخذوا أئمة الفقهاء آباء! وأي آباء؟ قد تُجز دونهم الرِّقاب!

المتديِّنون الأصوليُّون يرون أنَّ أزمة كبيرة فعلًا تمر بها مجتمعاتنا الإسلاميَّة الشَّرق أوسطيَّة، العربيَّة بالخصوص، منذ عقود طويلة، سببها الرئيس عقل يزعم أنَّه تنويري، يدَّعي الإسلام، مُركَّب في رأس إنسان رويبضة، من بني جلدة المسلمين، ينطق بلسانهم، بينما الشَّيطان رابض في قلبه يُزيِّن له الفكر الغربي المتحرِّر، المتهتِّك، الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، وإن آمن فهو الإيمان الهش المركون على رفِّ روحه، مثل الكنيسة المركونة على أرفف هذا المجتمع، عقل مغرور يسعى إلى إخضاع النُّصوص المقدَّسة، الكاملة باكتمال الله الخالق، لضوابطه المعتلَّة، النَّاقصة بنقصان الإنسان المخلوق، بحجَّة عدم مواكبتها لموازين هذا العصر، بذلك هو داعية تخريب وهدم للإسلام، يلوي لجام الأمَّة الإسلاميَّة لتسير مرغمة في ركب قطيع أممي يقوده الرَّاعي الغربي الكافر، بينما يمتلك المسلمون خريطة طريق واضحة المعالم نحو قيادة إسلاميَّة عالميَّة، وضعها رسول الله عن الله، عندما نبَّه المسلمين إلى أنَّ العزّ والسِّيادة في التمسُّك بكتاب الله، وسنَّة نبي الله، وهذا الجهاد الذي لم تتركه أمَّة من قبل إلَّا أحاط عنقَها طوقُ الذُّل.

لذلك يعتقد الأصوليُّون في أنَّ "ألف باء" التَّفكير الصَّحيح هو اتِّباع خريطة سيِّد البشر، التي أُوحيت إليه من خالق البشر. فأي عقل سليم الذي يقبل إفرازات أفكار بشريَّة مخلوقة ويرفض منتجات فكريَّة إلهيَّة خالقة؟! وإذا خُلق الإنسان كي يتَّجه إلى الله فإنَّ دعاوى الرُّويبضيين، من مدَّعي التَّنوير، المؤدِّية إلى رَكن الدِّين على الرفِّ الشَّخصي، ليست غير عملية دفع للإنسان إلى الوراء، بعيدا جدًّا عن الله.

إنَّها "للخلف در" الحقيقيَّة، في كمال نصوعها الإلحادي!

لذلك تظل جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" مرعبة للأصوليِّين، خصوصًا وأنَّ العالم الإسلامي قد احتُل بالمثقَّفين العلمانيِّين، والإعلام "المُتغربِن"، الشَّبكة العنكبوتيَّة تستفحل، هيبة المشايخ تذوب مع الوقت في ظلّ هذا الاشتباك الوحشي المعاصر بين المُقدَّس والمُهان، بين الدِّين الطَّاهر والسِّياسة الوسخة!

جملة "تجديد الخطاب الدِّيني"، بعيدًا عن تجاذب الطَّرفين لها حد تمزيقها مزعًا، بديعة المبنى والمعنى، جملة إيمانيَّة مُصاغة بروح عصريَّة، لم تُنكر وجود الدِّين، بل تُشير إلى حاجتنا له، لكن الفقه العتيق  يجب تجديده.

التَّجديد فعاليَّة إنسانيَّة راقية، يمارسها الإنسان كل يوم بمفردات حياته البسيطة، إنَّه نتاج طبيعي للتَّطور، والتَّطور نتاج طبيعي للحركة إلى الأمام، ما يعني أنَّ التَّجديد عمليَّة فطريَّة، والدِّين "فطرة الله" التي فطر عليها الخلق، الإسلام جاء تجديدًا للمسيحيَّة، وتنشيطًا للصَّالح فيها من معتقدات إيمانيَّة، مثلما المسيحيَّة جاءت تجديدًا لليهوديَّة وتنشيطًا للصَّالح فيها من معتقدات إيمانيَّة.

أي: الدِّين بالأساس فكرة تجديديَّة.

جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" لم تكن يومًا "تغيير الخطاب الدِّيني" حتَّى نتعامل معها بكل هذا الخوف والرعب، فلماذا يتعامل معها الطَّرفان بكل هذا الخوف والرُّعب؟

الإجابة ببساطة: سوء الطَّوية. أو بصياغة أيسر: فساد النَّوايا.

لننظر إلى مكوِّنات ألتراس "مع تجديد الخطاب الدِّيني"، نقصد التَّنويريِّين، ومكوِّنات ألتراس "ضد تجديد الخطاب الدِّيني"، نقصد الأصوليِّين، لنفهم مسألة "سوء الطَّوية" هذه.

التَّنويريون مثقَّفون ثقافة حرة.

المثقَّفون نوعان: حقيقيُّون، ومدَّعون.

الحقيقيُّون نادرون كالزِّئبق الأحمر، والمدَّعون عدد حبَّات الرَّمل!

المثقَّف الحقيقي إنسان راق، فيلسوف، ربَّى عقله، ودرَّب ذهنه، على قبول الآخر بحب، أو رفضه بوعي، فهو يدرك أنَّه، على كل حال، يتعامل مع فكر مُنتج يقدِّمه إنسان مثله، يعتقد مثله أنَّه على صواب، وأنَّ من حوله يتيهون في ضلال التَّفكير! بالتَّالي يتبادل الجدليَّة مع هذا الإنسان المختلف، "المُتخلِّف!"، دون استعلاء خطابي، أو كره وجداني، بل مستعد لمحاورته درجة خروجه من الاستراتيجيَّة الفكريَّة التي اعتنقها، وانضمامه لفكر مُحاوره، إن استطاع هذا الأخير إقناعه، كما هو مستعد للدِّفاع عن حق الآخر في التَّعبير عن فكره.

لذلك يبقى المثقَّف الحقيقي ضد السُّلطة في أي زيٍّ من أزيائها: الدِّيني، أو السِّياسي، أو الأيديولوجي.

أمَّا المثقَّف الدَّعي فشخص هش، منهزم في ذاته، لم يحقِّق أيّ نجاحات فكريَّة في مجال عمله الثَّقافي، إن كان روائيًّا فهو "روائي" لا يؤمن بالرِّواية وسيلة لإيقاظ الوعي، وإن كان شاعرًا فهو "شاعر" لا يؤمن بالشِّعر رسالة حقيقيَّة، بقدر ما يؤمنان بالكتابة واجهة اجتماعيَّة، ووسيلة للسِّياحة في بلاد الله المتنوِّعة، والأكل في مطاعم الله الفاخرة، متتبِّعًا لذلك خرائط الأمسيات والنَّدوات والمؤتمرات المحليَّة والإقليميَّة والدُّولية!

يمكن القياس على ذلك المشتغلين بحقوق الإنسان، أو أعضاء الأحزاب السِّياسية القائمة على أفكار تحرُّرية.

أمثال هؤلاء المتثاقفين يرفضون الآخر حدّ تصفيته جسديًّا إن أمكن، وحجَّتهم أنَّ هذا الآخر لا يؤمن بالكلمة ولا بالرَّأي ولا بالحرِّية، وإنَّما بالإرهاب المسلَّح، وبالتَّالي من حقِّه كإنسان مسالم الدِّفاع عن النَّفس، والمطالبة بالخلاص من هذا الإرهابي كمًّا وكيفًا، ما يتبعه ألَّا يجد غضاضة في الوقوف بصف السُّلطة، وإن كانت مستبدَّة، كي تستخدم قوَّتها المتمثِّلة في الجيش والشُّرطة، وكل قوى الأمن غير المرئيَّة، من أجل تنفيذ عملية الخلاص هذه.

الأصوليُّون مثقَّفون ثقافة دينيَّة! وينقسمون إلى نفس النَّوعين: حقيقيُّون، ومدَّعون.

الحقيقيُّون منهم نادرون ندرة الزِّئبق الأحمر، والمدَّعون عدد ذرَّات الرَّمل!

الأصوليّ الحقيقي مسلم ناجح، اجتماعي، مع ذلك يعيش حياته لله، ملتزمًا بتعاليم الله، محبًّا للنَّبي وأهل بيته وصحبه، يسع قلبه كلَّ ما جاء في النُّصوص المقدَّسة ليأخذ منها، في كلِّ حادث، ما يبرِّر للإنسان، أي إنسان، ذلَّاته، يهمّه المضمون أكثر من الشَّكل، لذلك يسيح هذا النَّموذج الأصولي في طبقات المجتمع كلّه، فتجده شيخًا من مشايخ الدِّين، وتجده موظفًا حكوميًّا، وتجده ضابطًا من ضبَّاط الجيش، أو مرشدًّا سياحيًّا، أو أديبًا، وربما ممثِّلًا سينمائيًّا! موقفه مَّمن يخالفه الرَّأي، أو العقيدة، أو وجهة النَّظر السِّياسية، هو قول الله تعالى: "لكم دينكم ولي دين".

ثقافة دينيَّة تعترف بالآخر، وتمنحه حقَّه في الوجود والاعتقاد.

الأصولي الدَّعي غالبًا ما يكون مسلمًا تعرَّض لفشل كبير في مبتدأ حياته، أو هزَّة نفسيَّة عاتية نتجت عن موقف اجتماعي، عائلي أو سياسي، أودت به إلى زاوية من الدِّين يقدم له شيوخها التَّفسيرات والحلول المُريحة لأزمته النَّفسية، والمبرِّرة لفشله الذريع، فكل ما يحيط به من مآسٍ هي إرادة الله، والمؤمن مُصاب على قدر إيمانه، ثم، وهذا هو الخطير، "إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيم أقامك". فينظر هذا الأصولي الدَّعي إلى مقامه فيجده مقام صوم، وصلاة، وعبادة دائمة لا يفتر عنها ليلًا ولا نهارًا، بينما الآخرون تلهيهم الدُّنيا، فيهمس لنفسه: إذًا أنا الأفضل.

وهكذا، في غمضة عين ملأ نقصًا كبيرًا في ذاته بتوهُّم الأفضليَّة الدِّينية لمجرَّد أنَّه صوَّام، قوَّام، ريَّاد مساجد. ثمَّ مع الوقت، ولأنَّ نقصه لم يمتلئ بغير الوهم، لا تكفيه هذه الأفضليَّة المزعومة، فيبحث في آيات "القرآن"، وأحاديث النَّبي، عمَّا يمنحه السُّلطة والسِّيادة على هؤلاء الملهيِّين بالدُّنيا الظَّانِّين أنَّهم الأنجح والأفيد لمجتمعهم.

وما "السِّيادة" غير "أسياد" يأمرون وينهون؟ فيهب متعلقًا بالمرجع القرآني ليجد ضالته في: "كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر". ليتطوَّر الأمر حتَّى يكون موقفه ممَّن يخالفه الرَّأي والعقيدة، أو وجهة النَّظر السِّياسية: "وقاتلوهم حتَّى لا تكون فتنة".

ثقافة التَّمييز والتَّناحر باسم الدِّين.

ضاعت جملتنا البهيَّة "تجديد الخطاب الدِّيني"، حلوة المبنى والمعنى، بين أدعياء الفريقين.

فأدعياء التَّنويريين جعلوها حصان "طروادة"، خدعة كبيرة لدخول المدينة المستغلقة، لا لتنويرها كما يعلنون، أولتهذيب حصونها كما يقولون، وإنَّما لهدم أسوارها، واستباحة شوارعها وبيوتها وكنوزها، وطرد سكَّانها، أو إبادتهم.

لكن خدعة حصان "طروادة" لن تتكرَّر مرَّتين، لذلك يقف أدعياء الأصوليَّة لها بالمرصاد، لا حفاظًا على الدِّين كما يُعلنون، أو طاعة لله كما يقولون، وإنَّما تمسُّكًا بهذه الزَّاوية من الدِّين التي منحتهم إحساسًا عاليًا بالذَّات فصاروا "السَّادة"، ولم لا وهم أوصياء الله على الأرض، المكلَّفون بالأمر والنَّهي؟!

لذلك لن تتفجَّر الطَّاقات الإصلاحيَّة الكامنة في جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" إلَّا بتداولها بين تنويريِّين وأصوليِّين حقيقيِّين، يؤمن كلاهما بحق الآخر في الحياة الكاملة، ماديًّا وروحيًّا، وبتواصل إنساني بينهما يقوم على أنَّ الله ربّ الجميع، وأنَّ للجميع أديان.

تنويريُّون وأصوليُّون يقرِّرون أنَّه من الضَّروري قبل تداول "تجديد الخطاب الدِّيني" أن يتم تداول "فهم الخطاب الدِّيني".

فأساس كل التباس "فهمٌّ" ما.

 


استخلاص المعاني والعِبر

انقضى الزَّمن الجميل لمدينة "الأقصر" المصريَّة بتحوُّل ساحة سيدي العارف بالله "أبو الحجَّاج" من حديقة خضراء مؤنسة، تنتشر فيها الأشجار الكبيرة، والأرائك الخشبيَّة الرَّحبة الحنون، إلى متَّسع قحط جامد ذي أرضيَّة رخاميَّة، تناثرت فيه بضع أرائك قُدَّت من صخر! تبخَّرت الرَّحمة من قلوب مهندسي هذا التحوُّل عندما تبخَّر الذَّكاء من عقولهم؛ فأماكن النُّزهة في المدن القائمة داخل قلب الصَّعيد الملتهب بالطَّقس الحار لا يجب أن تكون عارية من أشجار وارفة تقي المتنزِّهين نهارًا من جلافة الشمس، كما لا يجب أن تُقدَّ أرائكها من صخر يختزن حرارة النَّهار بكفاءة حتَّى وقت متأخِّر من ليالي الصَّيف؛ إذا جلس المرء في هذه السَّاحة سيشعر بالضَّجر من فرط غباوة حكوماتنا التي تقوم بتنفيذ تصميمات، لساحاتنا ومياديننا، لا تليق إلَّا بالطَّقس الأوروبي البارد.

بذهاب خُضرة "النجيلة" وحلول صُفرة "الرُّخام" بدت هذه السَّاحة هيكلًا عظميًّا لكائن كان حيًّا، عندما مات جَرت عليه عوامل التَّعرية، نُزع عنه كل لحمه وجلده، وبقيت العظام الجامدة.

تمَّ هذا قبل 2011، في أواخر زمن المحافظ "سمير فرج"، الذي أشاع القلق في نفوس أهل "الأقصر" كما لم يُشعه محافظ من قبل؛ نسي المأفون أنَّ أهل هذه المدينة واقعون في حمى سيدي "أبو الحجَّاج" منذ ثمانية قرون كاملة، وأنَّ من يتجبَّر عليهم لن يمكنه الإفلات من غضب حاميهم أبدًا!

لم يكتف "سمير فرج" بجرائمه التي ارتكبها في حق الشَّعب الأقصري باسم تحديث "الأقصر"، بل أقدم على ارتكاب جريمة كبرى، حمقاء للغاية، في حق مولانا القطب نفسه، عندما أصدر قرارًا بعدم إقامة الاحتفال السَّنوي بمولد هذا العارف بالله، كان السَّبب المعلن وقتها هشًّا، لا يصمد أمام كرامات الأولياء العظماء، هو: تفشِّي مرض أنفلونزا الطُّيور! قرار يؤكِّد استهانة هذا المحافظ بقدرة "أبو الحجَّاج" على حفظ ضيوفه ومريديه من شرِّ أي مرض مهما كانت قدرة تفشِّيه في الجموع البشريَّة!

كان القرار صعبًا وصادمًا ومثيرًا للتخوُّفات؛ لأوَّل مرَّة منذ قرون طويلة عبرت ذكرى ميلاد هذا الشَّيخ الجليل صامتة، في ركود، بطعم الموت؛ ظهر للبسطاء وكأنَّ سطوة "أبو الحجَّاج" قد زالت من قلوب الحكَّام! لم لا وقد توقَّفت كراماته، فعلًا، بتقدُّم الزَّمن نحو عصور صارت أكثر احتفاءً بالماديَّات على حساب الرُّوحانيات، تُقدِّم العلم على الدِّين؛ كأنَّ سيدي "أبو الحجَّاج"، هو الآخر، يتقبَّل هذه المهازل العصريَّة البعيدة عن روح الله!

أبي رجل يهتم بهندامه، ملامح وجهه قريبة الشَّبه جدًّا من ملامح وجه الممثل "محمود ياسين"؛ مع الأخذ في الاعتبار أن أبي أكثر وسامة؛ أمِّي فائقة الجمال أيضًا، لا شبيه لها بين الممثِّلات، جمالها عثمانلي، حتَّى اسمها تركي، "عصمت"؛ يستعدَّان لليلة النِّصف من "شعبان" استعدادات خاصَّة، لم نكن نسمِّها ليلة "النِّصف من شعبان"، كنَّا نسمِّيها ليلة "المولد".

بدءًا من أوَّل أيَّام شهر "شعبان"، من كل عام هجري، ترتدي "الأقصر" حلَّة بهيَّة، تظل ترتديها لخمسة عشر يومًا متتاليًا، قبل أن تستبدلها، بعد انتهاء المولد، بحلَّتها المعتادة كمدينة للسَّائحين الغرباء، القادمين من بلاد برَّة.

أنا طفل صغير، بالكاد أفهم ما يجري حولي، أبي يضغط بأصابع كفِّه الغليظة على كفِّي الصَّغير، يجرّني خلفه، أتضايق من قبضة يده، أتمنَّى لو يطلق سراحي لأشاهد بحريَّة هذه الشَّوارع التي اختلفت، لو أنَّه نفَّذ رغبتي الصِّبيانية لجرفتني هذه الجموع إلى الضَّياع بلا جدال، فقد لفظت الشَّوارع هدوءها واحتوت ازدحامًا غريبًا، ازدحامًا يزداد ويتكاثف كلَّما اقتربنا من ميدان "أبو الحجَّاج"، ليصير خانقًا هناك، فأسقط في عماء من الأجساد البشريَّة ولا أعود أرى شيئًا، قامتي بالكاد تصل إلى ما فوق ركبتي شاب بالغ متوسط الطول؛ نرجع إلى البيت وقد اشترى أبي حلوى المولد، حصان لي، عروسة لأختي؛ لم أكن أمتلك وقتها طاقة تأمُّلية تعينني على استخلاص المعاني والعبر، لكن فارس الحصان السُّكري الأحمر دائما ما كان يلفت نظري، شكله غريب عن فرسان التَّاريخ الذين كنت أرى صورهم في المجلَّات والقصص؛ مضت السُّنون، كبرت، صرت أمشي بمفردي في شوارع مولد "أبو الحجَّاج"؛ الغرباء، من مختلف مدن وقرى محافظات "مصر"، افترشوا الشَّوارع الرَّئيسية، ما بين باعة موالد متجوِّلين ومريدين أحباب للعارف بالله؛ فِرَش باعة حلوى المولد تتراص على أرصفة الثَّلاثة شوارع الرَّئيسة في "الأقصر": "المنشيَّة"، و"المحطَّة"، و"المركز" "شارع طريق الكباش حاليًا"، شوارع كانت ضيِّقة قبل أن يلحقها تطوير "سمير فرج"؛ لم يقتصر غزو باعة حلوى المولد على هذه الشَّوارع فقط، بل تمدَّد إلى شوارع أقل أهميَّة، أقراص "الفوليَّة" و"السِّمسمية" رُصَّت كأبراج دائريَّة، أصابع "العسليِّة" تناثرت حولها كأحراش صحراويَّة، قطع "الملبن" و"الملبِّسات" و"الشَّعرية" تكوَّمت على معارضها الخشبيَّة، تلال "الفول السُّوداني" ربضت على الأراضي، مسجِّلات "النَّاشيونال" معلَّقة داخل كل فرشة تزعق بأناشيد مدَّاحي النَّبي وذاكري قصص أهل الله من أصحاب الكرامات، مسجِّلات أخرى تغنِّي قصص "أبو زيد الهلالي"، و"شفيقة ومتولي"، و"ياسين وبهية"، و"أدهم الشَّرقاوي"؛ بين فِرَش الحلويات هناك فرش لبيع اللعب البلاستيكيَّة الرَّخيصة، والبالونات، هناك أيضا فتارين صغيرة تعرض الاكسسوارات الحريمي ذات الطَّابع الرِّيفي البسيط، فاقعة الألوان؛ باعة الزَّبادي يحملون منتجاتهم في صناديق على رؤوسهم ويمضون في الزِّحام برشاقة، مطاعم متنقِّلة تقدِّم مأكولات "الفول والطَّعمية"، أخرى تقدِّم "السَّمين"، غيرها لـ"الفول النَّابت"؛ سكَّان "الأقصر" لا يظهر وجودهم في هذا المد البشري، لكن بعضهم، ممَّن ضربت جذور عائلاتهم في أرض هذه المدينة وقراها، يفتحون بيوتهم لإطعام ضيوف سيدي العارف بالله، ابن "الأقصر" البار، ووالد الكل؛ هؤلاء يقومون بذبح الأضحيات التي رُبِّيت سلفًا بنيَّة ذبحها في هذه الليلة إكرامًا لـ"أبو الحجَّاج" وضيوفه، يُعدُّون الموائد والأبسطة بشكل يماثل موائد الرَّحمن الرَّمضانية التي تفشَّت مؤخَّرًا وقد عمرت بأطباق "الملوخيَّة" و"البطاطس" و"الفاصوليا" وطبق "الأرز" الكبير المُحمَّل بقطع اللحم، والسَّلطات، جنبًا إلى جنب مع هذا الطَّبق الذي لا يُعد في أي مكان آخر من العالم، ولا في أي أيام أخرى من السَّنة، ذلك الطَّبق المُسمَّى بـ"الكباب"!

أمِّي، وبعض جاراتها، منهن "أم وجيه" المسيحيَّة، يجلسن حول "العجَّانة" الألمونيوم الكبيرة، يقتطعن بأصابعهن من هذا الخليط العجيني، المكوَّن من "القمح" المسلوق درجة الاهتراء وبعض التَّوابل وإضافات أخرى من سمن أو زبد أو نخاع عظام البقر والجاموس، يصنعونه كرات صغيرة؛ بجوارهن "بابور جاز" يفش ناره في قعر حلِّة معدنيَّة كبيرة مُلئت إلى منتصفها بالماء، الحلِّة تتحمَّل النَّار لكن الماء لا يفعل، يتقلَّب داخلها، وعندما يُلقى بعشرات كرات الكباب داخله يهدأ تقلُّبه لبعض الوقت قبل أن يعود لحالة الغليان، لا يستلزم الأمر أكثر من ربع ساعة ليكون هذا "الكباب" الحجَّاجي قد استوى هنيئًا مريئًا للآكلين. وأمِّي وجاراتها يُعددن غيره متبادلات الحكي والضَّحك.

تقول الكتب إنَّ أصول "أبو الحجاج" تعود إلى النَّبي الهاشمي عبر صُلب الإمام "أبو جعفر الصَّادق"، وإنَّه تعلَّم الفقه في حاضرتي الإسلام الكبيرتين: "بغداد" و"دمشق". ولبث وقتًا طويلًا في "المدينة المنوَّرة" مجاورًا لجدِّه، صلوات الله وسلامه عليه، قبل أن يشد الرِّحال ليواصل طلب العلم في "القاهرة"؛ لكن "مصر" بلد ليست كالبلاد، إنَّها مغمورة بفيضان "النِّيل" وسحر الفراعنة. تُداهم "أبو الحجَّاج" إحدى الرُّؤى ـ لطالما تسبَّبت الرُّوى في حوادث مفصليَّة في التَّاريخ الإنساني ـ تدفع به للارتحال نحو "الأقصر"، والاستقرار بها، ليبدأ نجم هذا الدَّاعية في السُّطوع كما لم يسطع نجمٌ من قبل، كامل الألق والبريق.

إذا كان الخيال قد عمَّ العالم فإنَّ منبعه "طيبة" القديمة، ذات المائة باب، والمائة إله؛ الأسطورة بنت الخيال، أي بنت "الأقصر"، التي بقيت وهي في أزهى العصور الإسلاميَّة متمتِّعة بخيالها الأسطوري، حصَّنتها القصور الفرعونيَّة والمعابد المنتشرة في كلِّ أرضها من جفاف الواقعيَّة، لا مبان عملاقة تملأ عين الأقصري، قديمًا وحديثًا، هو المولود بين المباني العملاقة التَّليدة، لكن الأسطورة تملأ قلبه، تحمل روحه إلى الذُّرى التي تسكنها الأرباب.

عندما جاء "أبو الحجَّاج" إلى "الأقصر" جاء داعية، مصادر المعلومات النَّمطية لم تذكر غير "الدَّعوة" و"طلب العلم" سببين لمجيء هذا الرَّجل إليها، لكن هذا لا يمنعنا من تخمين أسباب أخرى، ربما تكون خبيثة!

خطُّ سير سلالة "أبو الحجَّاج" يلفت نظرنا إلى أنَّه، بالتَّصنيفات الدِّينية المعاصرة، شيعيٌّ؛ والشِّيعة، أثناء القرن السَّادس الهجري، لم يكونوا قد وصلوا لهذا الغلو العقائدي المحسوس الآن، كانوا يشبهون أهل السُّنة مع بعض الفوارق المُميِّزة لهم، كانوا مقبولين في مجتمعات الأغلبية السُّنَّية، حتَّى أنَّ والد "أبو الحجَّاج"، كما يذكر كتَّاب سيرته، عمل موظَّفًا كبيرًا في قصر الخلافة العبَّاسية؛ تلك الخلافة التي لم تتوان، منذ ظهورها، عن مصارعة العلويِّين صراعًا طويلًا ومميتًا، مع ذلك أمكن للعلويين تحقيق انتصار حاسم، وإقامة خلافتهم الفاطميَّة القويَّة في "مصر"، والتي استمرَّت زهاء قرنين من الزَّمان.

عندما وصل "أبو الحجَّاج" "مصر" كانت الدَّولة الفاطميَّة تحتضر، وسلطات أهل السُّنة تستبد بالقصر الحاكم، عاصفة السِّياسة تشتد، سفينة العلويين تترنَّح، كان ضروريَّا بذل محاولات إنقاذ جادَّة، وقتها كان السِّلاح الدَّعوي هو الأمضى، والدُّعاة هم كتائب الاستطلاع والتَّمهيد قبل القتال. فهل جاء "أبو الحجَّاج" لأداء مهمة مقدَّسة لصالح علويِّي أهل البيت، أم لطلب العلم فقط كما ذُكر في كُتب سيرته؟ وأي علم فقهي يمكن طلبه في "القاهرة" الشِّيعية وقتها؟!

لم تفلح مهام الإنقاذ في صدِّ المُقدَّر والمكتوب، انتهت الدَّولة الفاطميَّة الشِّيعية، ونهضت الدَّولة الأيوبيَّة لكتابة سطورها في سفر التَّاريخ، وبدلًا من أن يرتحل "أبو الحجَّاج" سالكًا طريق العودة إلى طيبة "المنوَّرة" ليجاور جدَّه، أو يؤوب إلى "بغداد" منشأ أسرته، أعلن عن رؤية مناميَّة تفسيرها الوحيد الارتحال إلى طيبة "الأقصر"!

هل كانت الرُّؤية حقيقيَّة فعلًا، أم أنَّها مُدَّعاة لتحقيق أهداف سياسيَّة تتعلَّق باستمرار الدَّعوة وإعادة تمهيد الأرض لعودة الفاطميِّين؟

لا ضير من طرح أي أسئلة مُتشكِّكة طالما التَّاريخ الإنساني يؤكِّد على رسوخ تبادليَّة التَّوافق، وتضافر الدِّين بالسِّياسة.

على كل حال كان "أبو الحجَّاج" رجلًا داهية، كما تقول أساطير أتباعه المقدَّسة، حكايته مع أميرة "الأقصر" الرومانيَّة! "تريزا" المسيحيَّة، مشهورة؛ فقد طلب منها رقعة بتخصيص مساحة من الأرض لا تتجاوز "المتر في متر" كي يتعبَّد فيها، فمنحته الرُّقعة النَّاصة على ذلك، فحوَّلها إلى قصاقيص من شرائط أحاط بها المدينة كلها، فصارت مِلكه! تُستكمل الأسطورة بأنَّ "تريزا" لم يصبها القهر، بل أُعجبت بدهائه، فأسلمت، وتزوَّجته!

دورة سيدي، العارف بالله، "أبو الحجَّاج" هي ذروة الاحتفال بأيَّام مولده، تبدأ في ظهيرة الرَّابع عشر من "شعبان"، حدث مشهود يحتشد له القاصي والدَّاني، يمتزج فيه القادمون من بلاد برَّة بالقادمين من أنحاء "مصر"، الضَّجيج يصم الآذان في ساحة المسجد مترامية الأطراف، المئذنة الفاطميَّة تتطاول على المسلَّة الفرعونيَّة، المسجد ربض في قلب المعبد، بقعة من الأرض دُعي فيها الله بالفرعوني والرُّوماني والقبطي، والأذان عربي. من هنا كانت مراكب الشَّمس تحمل أجساد الفراعين إلى أرض الغرب من "النِّيل"، حيث مستقر الأرواح والأجساد المحنَّطة، في دورة "أبو الحجَّاج" يتصدَّر المركب الموكب الحاشد الطَّويل، محمولًا على أربع عجلات، مربوطًا به بضع عربات "كارو" رباعيَّة العجلات، كلها محمَّلة بعشرات المئات من البشر، هذا القطار الاحتفالي تجرُّه الحشود بواسطة حبل كتِّاني غليظ ليطوف كل المدينة دون تعب! عشرات أخرى من عربات النَّقل الثَّقيل، والخفيف، يستعملها أصحاب المهن كمنصَّات لعرض طرائف ما يمتهنونه، لكن أطرف عربة هي تلك التي يعتليها رجلان، أحدهما متنكِّر في ثياب امرأة خليعة، يمارسان علنًا، في الموكب المقدَّس، حركات جنسيَّة فاحشة! كأنَّها لمحة سريعة تحتفي بربِّ الجنس والخصوبة عند المصريِّين القدماء. يتقدَّم "الدُّورة" أحد أحفاد مولانا، في ثياب مسدلة ناصعة البياض، يعتلي فرسًا مليحة، يليه صفَّان أو ثلاثة من منشدي بردة "البوصيري"، تجأر حناجرهم بها، أصواتهم تجاهد لتحتل قدمًا لها في كل هذا الصَّخب الأسطوري. يليهم نافخو النَّار، كأنَّ الموكب لوحة فلكلوريَّة رامزة ليوم القيامة، جنَّة وجحيم، مديح وخلاعة، خليط الدُّنيا الفوَّارة. كل البيوت التي يمر بها الموكب تزغرد نساؤها في البلكونات بينما ينثرن "الفول السُّوداني" و"الحلوى" و"النُّقود المعدنيَّة" على الزَّخم البشري.

ثم.. غدًا!

صمت.

"الأقصر" هادئة تمامًا، كأنَّها ماتت بالسَّكتة القلبيَّة!

لم تنته كرامات سيدي العارف بالله "أبو الحجَّاج"، كما يحاول أن يشيع المغرضون العلمانيُّون، ففي واحدة كبيرة من هذه الكرامات أطاح بنظام "حسني مبارك" كله! إذ هيَّج القطب الربَّاني الجموع الأقصريَّة، تلك التي ليس من طباعها الثَّورات، لتشارك في كل جمعات ثورة الخامس والعشرين من "يناير"، وتُسقط النِّظام، لا لشيء غير أن تجري محاكمة هذا المحافظ، المدعو "سمير فرج"، الذي جرؤ على جرِّ قلمه والتَّأشير به على قرار إلغاء مولد هذا الدَّاهية.

وحتَّى ذكرى المولد الماضية لا يزال الحصان السُّكري الأحمر يمتطيه ضابط يرتدي الزِّي العسكري المعاصر!

     

  

 

صخب القصر المهجور

 سنة 2008 شاهدت هذا الفيلم سرًّا، في بيت أختي. كانت مندهشة جدًّا، حتَّى إنَّها، في كل مرَّة تقدِّم لي مشروب ضيافة، أثناء متابعتي لأحداثه، تبتسم خفية، ألحظ تبسُّمها بطرف عيني. معها حق تستعجب! كيف لا تفعل وهي ترى أخاها، الغارق في السلفيَّة حتَّى أذنيه، أبو لحية طويلة، وجلباب قصير، و"زبيبة" في قورته، منغمسًا بالكليَّة في مشاهدة فيلم "تايتانيك"؟!

مهما حاول السَّلفي، في مجتمعاتنا المعاصرة، الانغلاق على سلفيَّته لن يتمكَّن من فعل ذلك بكفاءة قصوى، فقوَّة ضغط الحاضر عادة تتخطَّى المقاييس الآمنة لتشرخ عقول الجميع بقسوة، والسَّلفي مهما حاول الملائكيَّة يبقى عنصرًا إنسانيًّا، لن يفلت، يتشقَّق بدوره.

"تايتانيك" فيلم عاصف، يتناول قصَّة ليست معتادة؛ سفينة عملاقة صُمِّمت ونُفِّذت لتحدِّي البحار، والمحيطات، فتغرق في أوَّل رحلة بشرخ تافه سبَّبه بروز جليديّ هش!

زيَّن لي شيطاني مشاهدة الفيلم بحجَّة إيمانيَّة، ساقها نحوي بصوت وجدانيٍّ خاشع: يقولون إنَّها تمثيليَّة تصوِّر نهاية إحدى قصص التَّكبر الإنساني؟ التمس منها العظة يا أخي المؤمن، كي ترى أنَّ الله أكبر من كل ترَّهات المتغطرسين!

اتفقت مع أختي، المغرمة بمشاهدة أفلام قناة MBC2، على إحاطتي علمًا بتوقيت إعادة عرض الفيلم. وقد حدث. أخذت عليها العهود، والمواثيق المضمونة، بألَّا يعلم أحد من الأهل والأقارب، أو النَّاس أجمعين، عن فعلتي الشنعاء شيئًا، جلست أمام "التِّليفزيون" الملعون، وبدأت المشاهدة.

في 2015 استهلت الرِّوائية المصريَّة أسماء هاشم أحدث روايتها، "صخب القصر المهجور"، بالتَّلوين. إذ كانت بين يديها صورة حائلة، أبيض وأسود، لقصر قديم أنهكه توالي العصور، مهجور، حتَّى تُعيد الحياة إلى هذه الصُّورة انسربت إلى داخلها ببطء، قبل أن تُضفي عليها الألوان، فتنفخ فيها الرُّوح. رويدًا رويدًا تحوَّل سكون القصر، الميِّت بأشباح الرَّاحلين، إلى صخب. استرجعت شخصيات روايتها من الفناء أحياء، كأنَّهم ما رحلوا، وكأنَّ القصر لم يفقد عنفوان الحياة يومًا! استهلال روائي ذكَّرني، فور قراءته، بالدَّقائق الأولى من "تايتانيك"، حيث "الكاميرا" تغوص ببطء إلى أعماق المحيط نحو حطام السَّفينة الغارقة، قبل انسرابها بالتِّقنيات العلميَّة المتقدِّمة إلى داخل الحطام، تنقل مظاهر الغرق المميت، أثاث مُحطَّم، لوحات الجدران التصقت بها الطَّحالب، أغراض مبعثرة هنا وهناك، في صورة أبيض وأسود موحية بالموت، قبل تلوُّن الصُّورة تدريجيًّا لتدب الحياة في السَّفينة، تهدر ماكيناتها الأسطوريَّة، يعود إليها بهاؤها، يظهر مستقلُّوها من علية القوم يمارسون حياة الإبحار برفاهية باذخة، لنندمج بقوَّة مع حكاياتهم المرئيَّة.

استخدم "جيمس كاميرون" الكاميرا، وبعض التِّقنيات الحاسوبيَّة الحديثة، ليقدِّم لنا إبهارًا دام لأكثر من ثلاث ساعات، بينما استخدمت "أسماء هاشم" اللغة، وأسلوبًا هادئًا بسيطًا، لتقدِّم لنا حكاية مقروءة، في ما يقارب المائتي صفحة، من الشَّدو الإنساني الشَّكاء، والشَّكاك، تتغنَّى به في بيئة جنوبيَّة أسوانيَّة، تتماس مع البيئة النُّوبية، لولا أن لا نهر في "صخب القصر المهجور" يخفِّف وطأة الصَّحراء، بينما الأدب النُّوبي شغوف بصحراء يشقّها النِّيل غزلًا، أو طغيانًا!

وبينما "روز"، البنت الأرستقراطيَّة، تترك خطيبها "كاي"، الأرستقراطي البارد، لتقع في غرام "جاك"، الفوضوي الدَّافئ، ابن الطَّبقة الفقيرة، علاقة حب تظل فيَّاضة حتَّى غرق "تايتانيك" وموت "جاك"، فإن "فريدة"، في "صخب القصر المهجور"، حفيدة "كريم" باشا، تمثِّل بدورها الطَّبقة العليا من هذه البيئة الجنوبيَّة، تتنقَّل بين العديد من قصص الحب، ليس من بينها قصَّة واحدة مبهجة، كقصَّة "روز" و"جاك" على السفينة البائدة، وإنَّما حب كابوسي، ثقيل، لا ينتهي حتَّى بمشهد الموت الرُّومانسي الجميل، حيث "جاك" يتشبَّث بالطَّوف الذي تعتليه "روز"، يموت بردًا في المياه المتجمِّدة، وقلبه صهد بتلك التَّضحية التي قدَّمها لتعيش حبيبته، بل تنتهي قصص حب "فريدة" بالفعل التَّقاليدي القبيح.

مجتمعان على سطح السَّفينة، "الأثرياء" المستمتعون بالوفرة، و"الفقراء" المحاولون انتزاع متعهم الصَّغيرة من بين مخالب إرهاقهم اليومي، لم يختلط الأمر على جيمس كاميرون، بل استخدم الإقناع في إخراجه بحرفيَّة ممتازة، لأجدني أُصدِّق قصَّة الحب، غير المبرَّرة بقوَّة، مع كينونتها محورًا رئيسًا، ووحيدًا، شُدَّت إليه كل وقائع الغرق المهولة، ليعكس من خلالها الأجواء المتمايزة ما بين حياة الطَّبقة الأعلى في "تايتانيك" وحياة الطَّبقة الأدنى، شممت هذا التَّمايز، رغم أنِّي أجلس في مواجهة شاشة زجاجيَّة جامدة!

الرِّواية التي لا تثير حاسَّة الشَّم لدى القارئ رواية معيبة. في "صخب القصر المهجور" استُثير أنفي بروائح عديدة، رائحة خاصَّة للبيوت الفقيرة، رائحة البشرة السَّمراء، رائحة القهر، رائحة الصَّحراء، رائحة الفجيعة، الآمال الخائبة، الأحلام الموءودة، سخونة الأجواء الجنوبيَّة. الرَّائحة هي الدَّلالة الأكيدة على الوجود الحقيقي، فمهما رأيت زهورًا تبقى مجرَّد كائنات مُحتملة الوجود، صور مسطَّحة أو ذات عمق، حتَّى أشمُّ رائحتها فتصير للوقت ذات وجود حقيقي. وعلى ذلك كل الكائنات.

بعد أن كان قصر "كريم" باشا تحفة معماريَّة تسر النَّاظرين، وآية سلطويَّة من آيات القوَّة والتَّمكين، وإذ بدأ كل ذلك يحول، فإنَّ "أسماء" صاغت أيام الانهيار باقتدار، لأرى "تايتانيك" في أوقات بؤسها، و"جيمس كاميرون" يتريَّث كخالق جامد، لا يعبأ بزمن ولا مشاعر، أمام انهيار الأسطورة البحريَّة، وهزيمة الإنسان المتحدِّي لـ"بوسيدون"، يلتقط بكاميرته الرِّحلة الأخيرة نحو الزَّوال، وإلى الفناء. "كريم" باشا يسقط بمصرع ولده الوحيد، وفشله في محاولة مد جذور جديدة كي تضرب في المستقبل لتربط وجوده بالأبد، و"صفية"، سيدة القصر، تزوي، تتحوَّل من امرأة مهيمنة يتمنَّى النَّاس رؤيتها ولو للحظة خاطفة، إلى عجوز مبتذلة، تجلس خلف السور الحديدي للقصر تستجدي العابرين لحظات ونس!

عندما انتهى الفيلم لم تنته أصداؤه داخل عقلي، ولا قلبي، وأزعم أنَّ إيماني بالله قد نما وربا بعد رؤيتي "تايتانيك"، وتلك المشاهد مهولة التَّعبير لزُمر النَّاس المعذَّبة بالنِّهاية المفزعة، وكانوا منذ قليل يرفلون بثقة وغرور في نعيم الحياة، الوهم العائم! تصطخب موسيقى الحزن داخل غرف القصر المهجور، أسمعها جليَّة، "سلين دين" تغنِّي الأمل في إطار بهيٍّ من اليأس! سيستمر القلب في الخفقان رغم كل شيء، أي خفق؟ تلك هي المسألة.

الرِّواية التي لا تعزف موسيقاها مستثيرة حاسَّة السَّمع لدى القارئ رواية معيبة.

عندما انتهيت من قراءة الرِّواية الأولى لـ"أسماء هاشم"، "المؤشِّر عند نقطة الصِّفر"، انتفض عقلي، فقد جاءت نهايتها كإحدى النِّهايات الأجمل لما كُتب من روايات، إذ هيَّجت إحدى الأفكار الماكرة نحو كيفيَّات تسجيل التَّاريخ، تعرَّضت لأمر إنساني جلل بتفسير طفولي كامل البراءة!

وعلى كل، كم سفينة غرقت هرستها طواحين النِّسيان؟ كم قصر مشيَّد أفل بأفول ساكنيه؟ غير أنَّ "جيمس كاميرون"، و"أسماء هاشم"، عنصران من عناصر إبداعيَّة تواصل تحدِّي الآلهة، تنفخ من أرواحها في الذِّكرى فإذا بها تسعى حيَّة، كأنَّها لم تمت أو ترحل من قبل!  

   

 

 

الجدار العازل 

أنا لا يمكن أشرب حاجة في بيت واحد نُصراني.

النُصراني مش بيستحمى بعد ما يجامع مراته لا مؤاخذه، دول ناس معفنين، ريحتهم وحشة.

النُصراني......

وهلم جرّا.

أغلب انتقادات عوام المسلمين للمسيحيِّين تصب في اتِّجاه النَّظافة الشَّخصية، لاعتقادهم بأنَّ من لا يتوضَّأ، ولا يغتسل من الجنابة، فهو وسخ بالضَّرورة! بالتَّالي تغيب النَّظافة عن طعامه وشرابه، مع أنَّ نفس هذا المسلم، الفقير بالخصوص، لا يرى غضاضة في أن يغمس الذُّبابة، التي سقط طرف منها، كاملة في كوب عصيره، أو فنجان شايه، تنفيذًا لأمر جاء في أحد الأحاديث الشَّريفة عن سيِّدنا "محمَّد"، الذي أخبر فيه بأنَّ الذُّبابة، أيّ ذبابة، تحمل المرض على جناح في ذات الوقت تحمل الشِّفاء على جناحها الآخر، وحتَّى يتَّقي المسلم، الفقير بالخصوص، شرَّ جناح المرض، وشرَّ التَّخلُّص من المشروب، يضطر لغمسها بالكامل في آنية شرابه، أو طعامه، قبل أن يلتقطها ليلقي بها بعيدًا!

ولم يحرِّم الدِّين على الغنيِّ إلقاء الإناء وذبابته في أقرب صندوق قمامة.

عادة لا يتناول المسلم الغني، أو المتعلِّم، أو فاهم إسلامه، المسيحيَّ بكلام أو فعل يسيء له.

من يفعل ذلك المسلمون الفقراء دنيا ودين!

المسلمون الفقراء يملؤون الأرض، يمكن تجييشهم لتحقيق معادلات سياسيَّة ما، في أزمنة ما، تحتاج لتمكين نظام حاكم ما، لذلك تحرص الحكومات المستبدَّة على بقاء جهل عامَّة المسلمين مضيئًا بالغباء، كما تحرص على بقاء النُّقطة الحرجة حرجة، أو في غاية الإحراج، فتحافظ على أبواق الخطاب الدِّيني القائم على المعاملة حسب التَّصنيف لتنطلق مُحنجرة "وقت العوزه"، تحضّ المسلمين على الخروج في غزوة "الصَّناديق" لمواجة إرادة النَّصارى في تغيير الهويَّة الإسلاميَّة لـ"مصر"! وتحضّ المسيحيِّين على الخروج في "30 يونيه" لمواجهة حكم "الإخوان" الذي إن استمر سيقلع حذورهم من "مصر"!

يخرج الملايين، من المغسولة أدمغتهم باسم الدِّين، يضيعون مستقبلهم لصالح شرزمة، متمثِّلة في النِّظام الحاكم، الذي يقودهم بسلاسة مثل راعٍ ماهرٍ يقود أغنامه إلى المرعى، يُطعمها لا لها، وإنَّما له، يمتص ألبانها، ينزع عنها أصوافها ليلبسها هو، يجزرها ليمصمص عظامها بعد "لهط" لحومها.

لن نعرِّج على غباء عوام المسيحيِّين، لأنَّهم أصحاب ظروف خاصَّة، كما أنَّهم الضَّحية الأولى آخرًا، مؤكِّدا على أنَّه لا شك عندي في أنَّهم لو كانوا أغلبيَّة لما اختلفت تصرُّفاتهم أدنى اختلاف عن تصرُّفات عوام المسلمين، لأنَّ البيئة مسمومة بعقول عليها أقفالها، وأنظمة سياديَّة تحرص على إبقاء هذه الأقفال تعمل بكفاءة عالية، تحت إشراف رؤوس رجال الدِّين من النَّاحيتين.

كما لا أعتقد في أنَّ مشكلة المسلمين مع المسيحيِّين سببها أنَّ الأخيرين يعبدون إنسانًا على أنَّه الله، أو يقدِّسونه كابن لله، فقد أنهى الإسلام هذه المشكلة منذ ظهوره، عندما علَّم أتباعه أنَّ لهم دين ولغيرهم أديان، ولا إكراه في الدين، قد تبيَّن الرشد من الغي وانتهى الأمر.

ثم إنَّ المسلمين السُّنة، في بلادهم، لا يأبهون للأقلية الشِّيعية، والمسلمون الشِّيعة، في بلادهم، لا يحترمون الأقليَّة السُّنية، مع أن الطائفتين تؤمنان بإله واحد، ونبي واحد، يصلُّون صلاة واحدة، يحجُّون حجًا واحدًا، يصومون رمضانَ واحدًا، يذبحون أضحية واحدة، وسبب الاضطهاد أتفه من أن يُريق كل هذه الدِّماء على مدى كل هذه القرون المنصرمة!

انقسم المسلمون تحت بضع وسبعين راية ضلال، إلَّا واحدة كلُّهم يزعم إنَّه صاحبها، فلا يحترم غير شعبته!

في الوقت الذي تنشأ علاقات وطيدة من الحبِّ والمودَّة، درجة التَّزاور في المناسبات، وتبادل الهدايا المعبِّرة، والمسارعة في خدمة الآخر، والوقوف معه وقت الأزمة، بين مسلمي "مصر" ومسيحيِّيها، نحرص على إبقاء نعرة التَّفرقة لتتلقَّف أمور الشَّوارد الشَّاذة، تنفخ فيها لتُصبح بالون كبيرًا يملأ السَّماء، تخاله جبلًا يطير وهو ليس أكثر من "نيلون" حشوه الهواء! نعرة التَّفرقة تضرب على طبل الكراهية فتصدر أصواتًا كرعد برق العواصف العواتي، أصواتًا مريعة والطَّبل أجوف!

يحرص السِّياسيون، في "مصر"، على وضع المسيحيِّين على محك الخوف بشكل دائم، فيتركون الحبل، في المناسبات السِّياسية، لهوام المسلمين كي يرتكبوا ضدهم جرائم إرهابيَّة، مثل حرق الكنائس، أو افتعال مشادَّة ينتج عنها قتل مسلم ما ليكون الحل الأمني تهجير المسيحيِّين إلى خارج بيوتهم وقراهم! في محاولة حكوميَّة لإعادة الأمور إلى نصابها، وحماية المسيحيين! لم لا وهي تضع على كل كنيسة بضع عساكر لحراستها من الأشرار المسلمين!

في حين أنَّ التَّفرقة "اللي على أصولها" بين المسلمين والمسيحيِّين في "مصر" عملية ممنهجة تمارسها حكومات الأنظمة الحاكمة بمعلمة "ما لهاش مثيل ولا زي"، حتَّى بين كبار النَّصابين و"الحراميَّة" الشُّطَّار.

الأنظمة الحاكمة هي من يحرص على رسوخ مادَّة الدُّستور القائلة بإسلاميَّة الدَّولة، ما يعني فورًا أنَّ المسيحيِّين في "مصر" ضيوف، أو رعايا "درجة تانية" ليس لهم حق الرَّعايا المسلمين "أصحاب البلد". هي من يمنع المسيحيِّين من العمل في بعض الوظائف ذات الطَّابع السِّيادي. هي من يصر على بثِّ صورة للكنيسة تظهرها على أنَّها دولة داخل الدَّولة، ما يدفع إلى مزيد من كراهية المسلمين لها.

صبَّت تعليمات إحدى الوزارات المصريَّة في نفس الاتِّجاه عندما أصدرت قرارًا بمنع الكتب التي تتناول الاختلافات بين المسلمين والمسيحيِّين، أي اختلافات، وكأنَّها تسعى جاهدة إلى سدّ أي منفذ يمكن أن ينفث فيه الطَّرفان كبتيهما، أو إفساد نقطة اشتباك سلمي على الورق يمكن أن تؤدِّي إلى تفاهم ما بينهما، ليبقى الجدار العازل بينهما صلدًا وعاليًا، فلا يعرف أحدهما الآخر على حقيقته، كأتباع دينين يحضَّان على محبَّة الآخر وتراحمه، فيبقى الحال على ما هو عليه، مريحًا لنظام حاكم سيعلِّق فشله يومًا على اختلاف الأنطاع من المسلمين والمسيحيِّين! أو يحقِّق مبتغى ما بتأجيج هذا الاختلاف بينهما.

وطالما بقيت "مصر" تُحكم بغير ديموقراطيَّة حقيقيَّة، يخضع الجميع لنتائج صناديقها الانتخابيَّة، ترزح تحت نير إعلام عادته "يتحزَّم ويرقص" لنظامها الحاكم أيَّا كان لونه،، ووزارة ثقافة "تحت باط" الحكومة، و"أزهر" يقبض فلوسه منها فيتكلَّم بلسانها، و"كنيسة" تداهنها وتحايلها في محاولة أشبه بمحاولات لاعب "إكروبات" يمشي على حبل مشدود، فسيبقى سلوك عوام المسلمين تجاه عوام المسيحيِّين غشيمًا مستفزًّا، وإرهابيَّا أيضًا.

 

 

أنا ابن الشِّعر

 

أرى السَّردَ بناية لو لم يكن لها أساس من الشِّعر لما أمكنها التَّطاول في سماء الإبداع.

وأرى أنَّ سرَّ أسرار السَّرد هو كونه أحد صور نظم الشِّعر، حيث يمارس الرِّوائي، أو القاصّ، بعضًا ممَّا يمارسه قارض الشِّعر بخصوص الكلمة، إذ يقلِّبها في وجدانه، يعرضها على المعنى المُراد، مستكشفًا إن كان بمقدورها حمله، وتوصيله كما ينبغي، أم أنَّ طاقتها لا تناسبه فيستجلب غيرها.

إذا وجد الكلمة حمَّالة فإن مشكلة أخرى ستواجه السَّارد البديع شبيهة بتلك التي تواجه الشَّاعر عند اختيار كلمة القافية؛ فالشَّاعر يبحث عن رنَّة الموسيقى في قافية القصيد العامودي، يبحث عنها في شطرات القصيد الحر، يبحث عنها في معانى قصيد النَّثر؛ كأنَّنا إن وضعنا تعريفًا للشِّعر فلن يخرج عن كونه: معان تستنفرها موسيقى الكلمة. أو: معان تراقص موسيقى الكلمة. أو: أي شيء يواكب موسيقى الكلمة.

المهمّ في الشِّعر رنين الموسيقى. وعلى هذا ينتقى الشَّاعر كلماته.

السَّارد أسلوب، الأسلوب رصّ كلمات متجاورة، كلما تلاحمت كلمات الرِّواية، أو القصَّة القصيرة، دون رنين موسيقي كان الأسلوب أحكم.

المهمّ في السَّرد ألَّا يُحدث أوَّلُ حرف من الكلمة المنتقاة أي احتكاك بآخر حرف من الكلمة السَّابقة، ولا أن يُحدث آخر حرف منها احتكاكا بأول حرف من الكلمة اللاحقة، لو حدث  الاحتكاك صار السَّطر الرِّوائي، أو القصصي، مصدرًا للعديد من الأصوات الشَّاذة. وعلى هذا ينتقي السَّارد كلماته.

انتقاء الكلام بدقَّة، وحرفية، لصالح بناء النَّص صنعة الشَّاعر، والسَّارد.

قبل اكتمال العام الرَّابع عشر من عمري انتهيت من حبّ أربع بنات، "عزة" في السَّنة الأولى من المرحلة التَّعليمية الابتدائيَّة. "ألفت" في السَّنة الثَّالثة. "إيمان" في الرَّابعة. "أمل" في السَّادسة. كنت إذا رأيت الواحدة منهن يعتريني خجل مريع، يدفع بي نحو الابتعاد إلى أقصى مكان بعيدًا عنها، فإذا خرجت من المدرسة نسيت حبِّي العظيم! شعور طفولي غير قابل للاشتعال، لذلك لم يضطرم قلبي بالإوار الحارق الذي استعر عند رؤيتي لـ"ابتسام" وأنا طالب في الصَّف الثالث الثَّانوي العسكري؛ إنها في مثل عمري، ناضجة، مهيَّأة للحب، تجمعنا حصَّة درس الرِّياضيات الخصوصي فأحبُّها، يفرِّقنا الشَّارع فأحبُّها أكثر، أعود إلى البيت فأموت في دباديب حبِّها، أتلقَّط من "الرَّاديو" أغاني "عبدالحليم حافظ"، أتلقَّط من "التليفزيون" أفلام "عبدالحليم حافظ"، و"إنِّي أغرق أغرق أغرق"، في بحر الحب، و"لو أنِّي أعلم خاتمتي ما كنت بدأت، ما كنت بدأت، ما كنت بدأت". أصنع بدموعي بحيرة! أنا أعشقها ولا أعرف إن كانت تشعر بذلك، أخرج في قلب الليل أُحوِّم حول بيتها، رأيتها مرَّة تقف في "البلكونة"، ربما أراها مرَّة أخرى، أُطوِّف بقصر أميرتي، كل عشر تطوافات أراها مرَّة خاطفة! عندما تراني تسارع بالاختفاء مغلقة باب الشُّرفة خلفها.

كيف الخلاص من مكابدة الاحتراق بالشَّوق؟ كيف يفلت العاشق من تأثيرات العدميَّة التي قد تهدمه هدمًا نتيجة عدم تجاوب محبوبه؟ كيف للآلام أن تُفرَّغ قبل تحوُّلها إلى تفجير يبعثر الرُّوح شذرات؟

في الشِّعر منجاة.

انهمكت أكتب شعرًا، عشرات القصائد العاموديَّة ضمَّنتها غرامي وعذابي، دوَّنتها في "كشكول" كبير، منها ما يبلغ الثَّمانين بيتًا! ظلَّ أمر هذا "الكشكول" سرا لا يعرفه أحد، عندما انتهت أولى قصص حبِّي المؤثِّرة، قصَّة البنت "ابتسام"، كتبت أوَّل قصَّة قصيرة، "الإنسان والشَّمعة"، التي أفشيت سرَّها فورًا بعرضها على معلِّم مادَّة اللغة العربيَّة.

لا أتذكَّر أيّ عنوان لأيّ قصيدة من قصائد الحب التي كتبتها لـ"ابتسام"، وفي "ابتسام"!

عندما سألني الأستاذ "محمود منصور"، رئيس نادي أدب "الأقصر" منذ ما يقارب الثَّلاثين عامًا، وأنا أجلس وحيدًا في حديقة "أبو الحجَّاج"، عمَّا إن كنت أمارس أي كتابة، أجبته بأنَّني أكتب القصَّة! ولم أكن قد كتبت غير قصَّتين مقابل أكثر من ثلاثين قصيدة شعر!

في الشِّعر منجاة طالما أنَّك في عهدة حب.

الحب لوحة لا تعبِّر عنها بدقَّة غير حالة شعر. أمَّا السَّرد فإنَّه ملاذ المقتولين بالهجر، طريق لممارسة الفضفضة بالحكي عن الذي كان، والذي جرى.

إذا كان قلب الشَّاعر يرفرف في سماوات ذات طباق من حبٍّ وعشقٍ وغرامٍ، وإذا كان قلب السَّارد يرتحل في صحراء ذات فجاج من هجرٍ وغدرٍ وأوجاعٍ، فأصل الأثنين امرأة تلعب ببراعة على أوتار أنسانيَّتهما، تستنطقها أحلى موسيقى، فيرقص الإبداع.

 

         

 

المرأة القطَّة التفَّاحة 

نحن الرِّجال، مهما بدت أشكالنا وأوضاعنا الاجتماعيَّة محترمة، لنا مجالسنا التي نتكلَّم فيها بمجون وخلاعة متناهيين يضاهيان مجون وخلاعة الفسَّاق من أهل الحواري والمهن الوضيعة؛ وبواسطة علاقاتي متعدِّدة النَّوعيات بالأنثى عرفت أنَّ النِّساء، أيضًا، مهما ظهرن كسيِّدات مجتمع متأنِّقات، خجولات، لهنَّ مجالسهنَّ التي يتكلَّمن فيها بمجون وخلاعة متناهيين يواكبان مجون وخلاعة رقيعات علب الليل المومسات!

كثيرًا ما هام رجال دولة، كبار، حبًّا بنساء ذوات قيمة اجتماعيَّة ضئيلة؛ غير مرَّة عشقت الأميرات سيَّاس إسطبلات خيولهن؛ فالمناصب والمراكز الاجتماعيَّة، بما يفرضانه من أزياء ومناظر أبَّهة، ليسا غير أقنعة، والحقيقة المؤكَّدة هي أنَّ العالم الإنساني قائم على "مجرَّد رجل" و"مجرَّد امرأة" وثالثهما "الجنس"!

ومع أنَّ مفتاح فهم شخصية "نوريستا"، بطلة رواية "التُّفاحة الأخيرة"، هو الجنس، إلَّا أنَّ كاتبتها، اللبنانية "سونيا بوماد"، مرَّت على اللقاءات الجنسيَّة، بين بطلتها وخاطفها "إيفان"، مرور العذراوات، ربَّات الخدور المستحيَّات، مرورًا لا يكاد يُحس، بينما كنت أحس، كقارئ أولًا، وروائي يده في الصَّنعة ثانيًا، بأنَّ الرِّواية تضج اعتراضًا على مسلك كاتبتها بخصوص هذا الشَّأن، وأنَّ الفرس جامحة بينما الفارس خوَّاف لا يرخي لها العنان؛ وربما هذا التَّناول الجنسي الخجول، غير المتعمِّق في تفسير الدَّوافع الشَّهوانيَّة باتِّجاه تغيير مصائر الشَّخصيات، في معظم كتاباتنا العربيَّة، هو أحد أهم الفروق الجوهريَّة التي تجعل السَّرد الأدبي داخل حدودنا أقل صدقًا، وأضعف عنفوانًا.

في مجلس من مجالس الشَّباب في نجع "الخمايسة"، منذ أكثر من عشرين عامًا، كان الحوار يروح ويجيء بين الحضور حول ما جرى بين "الزَّناتي" و"أبو زيد الهلالي" مرَّة، وما جرى بين "ماطيَّة" الجميلة ورجال البلد مرَّة أخرى، وما يحصل بين الأزواج والزَّوجات في غياهب ليالي القرى، سمعتُ جملة غريبة لم أكن سمعتها من قبل، لم أفهمها جيِّدًا وقتها، لكنِّي أرى الآن عمقها البعيد فأتعجَّب لروعتها، إذ قال أحدهم بثقة وحزم: المرأة تنسى من خلقها ولا تنسى من خرقها!

قالها بإيحاءات تعني أنَّ المرأة تبقى تحب "خارقها" إلى الأبد!

رغم أنَّ "نوريستا" البوسنيَّة رأت "إيفان" الصِّربي يقتل كلَّ أسرتها، باعتباره أحد جنود فرقة إعدام مارست أعمالها الدَّمويَّة المشينة في هذه الحرب السَّافلة؛ ورغم أنَّه احتفظ بها ليضعها في قبو بيته، بعد تهريبها داخل سيَّارته العسكريَّة أثناء هروبه من الخدمة لسبب لم توضِّحه الرِّواية، يحبسها تحت الأرض لخمسة عشر سنة متتالية! ورغم أنَّ أول تعامل جنسي بينهما كان اغتصابًا فجًّا كاد يقتلها؛ رغم كل هذه المآسي أحبَّت الضَّحية جلَّادها! وبقيت تحبُّه في كلِّ تحوُّل من تحوُّلات حياتها.

عندما أنظر إلى قطَّتي النَّائمة مستكينة على وسادة سرير غرفة نومي، أو على مرتبة إحدى أرائك الرُّدهة، وقد ملأ الاطمئنان قلبها، أتذكَّر المرأة؛ فالقطَّة هي المعادل الحيواني للمرأة من وجهة نظري، جميلة مثلها، رقيقة مثلها، تخربش مثلها، ويمكنها النَّوم باستكانة في بيت أي سيِّد تفرضه الأيام عليها مثلها، تحبُّه طالما أحسن عشرتها، وربما تعشقه إن أساء إليها! فكثيرًا ما سمعت هذا المثل: "القطَّة تحب خنَّاقها"، وقطَّتي، مهما مارست معها من فنون الغلاسة، تأتي في النِّهاية وتستكين في حجري! ثمَّ سبق لي أن سمعت، في جلسات السَّمر على ضفَّة التِّرعة الغربيَّة في نجع "الخمايسة"، أحدهم ينصح أحدهم، وكان الأخير "على وش جواز": اضربها واركبها تاخد منها أحلى شغل في السَّرير.

التَّجربة الإنسانيَّة تقول إنَّ أحلى جنس، بين زوجين، هو الذي يكون بعد "رقع" الرَّجل امرأته "علقة سخنة"؛ إذ أثناء هذه الممارسة، تحديدًا، يحلو للمرأة الغنج بالعتاب، فينشط الرَّجل بالاعتذار جنسًا!

هناك نساء يطلبن من رجالهن إتيانهن اغتصابًا، بهذه الطَّريقة القاسية يُحلِّقن في أجواء المتعة.

ربما كل ما سبق يكشف عن بعض أسباب عدم سعي "نوريستا" للهرب من قبو "إيفان"، وبقاءها فيه لخمسة عشر عامًا متتالية، مع تمتِّعها بسعة حيلة تمكِّنها من الفرار؛ فقد سبق لها التَّقوقع خلف عجلة "الاستبن" أثناء تهريب "إيفان" لها، في تصرُّف لحظي ذكي أثناء قيام إحدى النِّقاط العسكريَّة بتفتيش حقيبة السيَّارة المختبئة داخلها؛ إنَّها إذن قادرة طوال الوقت على اختطاف حرِّيتها، لكنَّها، "نوريستا"، كالقطَّة تحب خنَّاقها، تحب الجنس بعد الخصام، تحبُّه عنيفًا، كما انَّها بطبيعتها الأنثويَّة قد تنسى من خلقها ولا تنسى من خرقها.

طبيعيٌّ جدًّا أن تعمر المرأة بيوت، وقصور، رجال لا يُصدِّق العقل الذُّكوري إمكانية تحمٌّلها مهام تعميرها! لأنَّها بيوت، وقصور، يمتلكها قتلة أهلها وناسها وأحبابها! فكم امرأة ذكرها التَّاريخ تمَّ أسرها بعد حرب، وقتل جميع أفراد أسرتها، ثم تزوَّجت الفارس القاتل، وأحبَّته، لتعيش معه حياة سعيدة؟ كثيرات، وفي "الإسلام" فعلت "صفيَّة" ذلك، عندما قاتل النَّبي "محمَّد بن عبدالله" أهلها اليهود، قتل أباها، ودخل بها بعد ساعات لتعيش معه بقيَّة عمرها زوجة محبَّة وأُمًّا من أمَّهات المسلمين؛ كما أنَّه بسبب حركة نذالة "هيلين" الأنثويَّة، عندما هربت من زوجها الأمير "الإسبارطي" مع حبيبها الأمير "الطروادي" استعرت نيران الحرب الأوديسيَّة الشَّهيرة بين البلدين المتناطحين. المرأة لا تتمتَّع بغريزة الوطنيَّة، ربما تحاول اكتسابها!

لم تقدِّم "سونيا بوماد" جديدًا، في "التُّفاحة الأخيرة"، يكشف مخبوءًا يخص هذه الحرب القميئة، التي دارت رحاها على الحافَّة الشَّرقية لـ"أوروبا" في النِّصف الأوَّل من العقد التِّسعيني للقرن المنقضي، لم تلق الضَّوء على مفهوم جديد لمآسيها، لم نشتبك كقرَّاء مع أطروحات وعي جديد للإبادة العرقيَّة التي جرت هناك؛ حتَّى دور المتطرِّفين إسلاميًّا، في تجنيد من يُسمَّون بالمجاهدين، قدَّمته الرِّواية من نفس الزاوية التي يرعاها الرَّاغبون في تسطيح قضيَّة الإرهاب، بمجرَّد إلصاق الفعل العنيف بمسلمين لا يفهمون إسلامهم! دون مناقشة حيادية فعَّالة لأسباب ظهور هذا الطَّفح المَرَضي، وتأثيره الكبير على مجريات الأحداث العالميَّة.

تقول الأسطورة إنَّ الربَّات الإغريقيَّات الثَّلاثة، "هيرا" و"أثينا" و"أفروديت"، تنافسن في مسابقة جمال بينهن، فاتَّفقن على أن يسألن أوَّل عابر عن أيّهن الأجمل، وكان هذا العابر هو الفتى "باريس"، الذي فتنه جمال الرَّبة الثَّالثة، فاختارها كأجملهن، فمنحته "أفروديت" الجائزة المتَّفق عليها: تفَّاحة.

التُّفاحة هي المعادل النَّباتي للمرأة، كلَّما قُضمت تضوَّع أريج عطرها.

 

 

 

شيخ مشايخ زمنالفَشْـ.. خَرا"

 

تسكن، مع أسرتك الصَّغيرة، بيتًا عائليًّا ورثتَه أبًا عن جدّ، البيت عتيق، ناءت جدرانه بالأحمال الزَّمنية فتصدَّعت صدوعات خطيرة؛ لك جار ثري، قلبه عطوف، خشي من تهدُّم هذا البيت فوق رؤوسكم، بنى بيتًا عصريًّا جميلًا، رحبًا وقويًّا، عاد إليك يأمرك بالانتقال إليه، قائلًا بحدَّةما هذا البيت الرَّديء الذي تسكنه؟واضح من بنيانه أنَّ أجدادك جهلاء بفنون البنيان، واضح أيضًا أنَّ جهلهم انتقل إليك بالوراثة فلا تنتبه إلى أيلولته للسقوط بسبب هذه الشُّقوق العميقة، عمومًا إحمد ربَّنا أن جارًا كريمًا عطوفًا مثلي خشي عليك فبنى لك بيتًا عصريًّا كي يُنقذك من مصير أسود يترقَّبك وأسرتك، هيَّا اترك هذه القمامة التي خلَّفها لك آباؤك و"لم العزالبأسرع ما يمكن، تعال اسكن سكنًا حضاريًّا آمنًا، ولندع المختصِّين يقومون بعملهم لإزالة بيتك الخرب هذا.

إن كنت ممَّن يتمسَّكون بالحياة على أي حال فلن تضيرك استعلائيَّة خطاب جارك كثيرًا، لن يؤذيك الانبطاح لاستعلائيَّته طالما في الانبطاح نجاة لك ولأسرتكلذلك ستسحب عيالك من بيت العائلة القديم إلى البيت العصري وأنت تلهج بحمد وشكر هذا الجار الثَّري أن أنقذكم من موت محقق، حتَّى وإن كان لسانه سليطًا درجة تسفيه آبائك وأمَّهاتك الأوَّلين والأوليات!

أمَّا إن كنت ممَّن يتمسَّكون بالحياة الكريمة فسيزلزل هذا الخطاب الفوقي قلبك ويضربه بالشُّروخ، ستتساءل بينك ونفسك إن كان يمكنك فعلًا الانتقال إلى هذا البيت العصري وأنت مُهدَّم الرُّوحمسلوب الكيان والسَّمتسترفض بإباء دعوة هذا الجار؛ بل إن كنت من أصحاب الدَّم السَّاخن يمكن أن يتطوَّر الأمر إلى تعدِّيك عليه بالقول الفاحش، والفعل الفاضح.

ماذا لو أنَّ هذا الجار تخلَّص من سلاطة لسانه، وطريقته الاستعلائيَّة في التَّعبير عن رغباته الإصلاحيَّة، ودعا الرَّجل للانتقال قائلًاكم هو جميل هذا البيت الذي تُقيم فيه، إنَّه مُهندَس بعقليَّة بنَّائي زمان، البروزات الجمالية كثيرة ورائعة، اتِّساع القاعات، النَّوافذ الكثيرة المجدِّدة للهواء، السَّقف العالي، لقد صار بيتك أثريًّا ثمينًا لفرط قدمه، لكن انظر يا صديقي، ألا ترى هذا الشَّرخ؟ وهذا، وذاك، إنَّها شروخ خطيرة في الجدران الأساسيَّة، ستؤدِّي حتمًا إلى سقوط البيت في وقت قريب، وأنت جاري، لك حقوق لديّ، بنيت لك بيتًا حضاريًّا تأمن فيه على سلامتك وسلامة أسرتك، فهلا تفضَّلت بالانتقال إليه في أسرع وقت حتَّى يتم ترميم بيتك ومن ثمَّ تعود إليه إن أحببت؟

سينتقل طبعًا هذا الأخ المهتم بكرامته إلى البيت الجديد وهو يشكر لهذا الجار لطفه وكرمه، إذ نقله وأسرته من الخطر إلى الأمان دون توبيخ ولا مَنٍّ، بل صان إحساسه بكرامته عندما أصرّ على أنَّ ما فعله هو الحق المستحق له كجار، وسأله التفضُّل بقبوله.

العقائد الدِّينية والمذاهب العقائديَّة مبان روحيَّة مُشيَّدة، يرثها المعتقدون آباء عن أجداد، لها من الإعزاز والإجلال في نفوسهم ما يفوق إعزاز وإجلال المباني العينيَّة والأوطان، الأديان تربطهم بالأقدس على الإطلاق، الله جلَّ وعلا، ترسم لهم خرائط حيواتهم، تحدِّد لهم طرائق معيشاتهم، تكشف لهم كيفيَّات نهاياتهم.

المباني المقدَّسة تؤول إلى نفس مصير البيوت العاديَّة طالما أنَّها استعمال بشريإذ وإن كان الدِّين إلهيًّا إلَّا أنَّ فقهه بشري، العوام من المعتقدين لا يتعاملون مع الدِّين بقدر ما يتعاملون مع فقهه، لذلك، مع مرور الأزمنة، دون بذل أي محاولات ترميميَّة لهذا الفقه البشري، يبلى ويهرم، حتَّى إنَّه يتحوَّل إلى مبنى آيل للسُّقوط فوق رؤوس أتباعه، ثم لا تتوقَّف توابع هذا الانهيار على أتباعه، بل تمتد إلى جيرانهم، وجيران جيرانهم!

هنا يجب على الجيران تنبيه هؤلاء المعتقدون إلى خطورة ما آل إليه فقه معتقدهم، وضرورة الانتقال منه إلى فقه آخر أليق بالعصر، يحقِّق لهم العيش بسلامة وأمن فكريِّين، كي يمارسوا عقائدهم بانفتاح تُوجبه الأديان الإلهيَّة وإن حرَّمته الأفقاه البشريَّة!

لكن الجيران "التنويريِّينللأسف لا يقلِّون حماقة عن جيرانهم "الأصوليِّين"!

إنَّهم لا يُوجِّهون خطاًبا لائقًا لمُعتقِدي الفقه الخاطئ يدعونهم فيه إلى الانصراف عنه، لا يفعلون ذلك بهدوء ورويَّة وحب، بل يصرخون ويثيرون ضجيجًا، يتلفَّظون بكلام "ماسخإن دلَّ على شيء فالكره المظلم الذي لا يمكن أن ينتج تنويرًا!

مثقَّفو التَّنوير سمجون للغاية، يتناولون نقائص الفهم البشريّ للأديان باستعلاء، يمارسون فوقيَّتهم إلى حدود التَّسبب في آلام حادَّة للآخر؛ الأخطر على الإطلاق هو ممارستهم التَّنوير بلمبات ذات شحن ضعيف، لا تتَّصل بمنبع كهربائي قوي، فتجدهم بعد فترة قليلة يسقطون في نفس الظَّلام الفقهي، وإن كان على الطَّرف النَّقيض!

في بوَّابة إلكترونيَّة تُدعى، على ما أذكر، "الحركات الإسلاميَّةموضوع كبير كتبه أحد "التَّنويريين!" منتقدًا الأزهر لأنَّه "يشارك في هالة تقديس البخاري"!

من حقِّي وضع علامة تعجُّب بالغة الضَّخامة، بحجم برج "القاهرةلو أمكن.

كأنَّ "الأزهرليس قائمًا على قواعد من علم شرعي أصله تقديس هالة "البخاري"!

كأنَّ "الأزهركان "مؤسَّسة الاتحاد الإلحاديفإذا به يخون مبادئه الإلحادية بالمشاركة في صناعة هالة تقديس "البخاري"!

بيان الإدانة الذي وجَّهه "التَّنويري!" مُعِد هذا الموضوع جاء كالتَّاليإنَّ المؤسَّسة الدِّينية الرَّسمية، والممثَّلة في "الأزهرووزارة "الأوقاف"، من أبرز الجهات التي تنادي بقدسيَّة "البخاري"، وإنَّ أي نقد وهجوم عليه وكتابه يُعد هجومًا على الإسلام، متَّفقين في ذلك مع أكبر تنظيمين إسلاميَّين على الأراضي المصريَّة "الإخوان المسلمينو"الدَّعوة السَّلفية ".

يرى عمدة مشائخ الإسلام، بعد ثورة 30 يونية المجيدة، المعروف بالشِّيخ "ميزو"! والمعروف أيضًا بـ"خطيب التَّحرير ومنسِّق حركة أزهريُّون مع الدَّولة المدنيَّة"، حسب ما ورد في هذا الموضوع الذي أثاره "التَّنويري!" إيَّاه، أنَّ صحيح "البخاريمسخرة.

في مقابل كلمة "مسخرةكانت هناك ردَّة فعل من قبل المدافعين عن "البخارياتَّهمت بدورها الشِّيخ "ميزو"، ومن يسير على دربه، بالسَّفاهة والخروج عن قواعد الإسلام!

لماذا "البخاريمسخرة لا تستحق التقديس؟!

لأنَّ "التَّنويريين!" يرون في "البخاريما يربو على أربعين حديثًا ضعيفًا، ما يُشكِّك في أسطورته ككتاب أحاديث صحيح، ويُشكِّك في نزاهة "البخارينفسه الذي ادَّعى صحَّة كل أحاديثه، مع أنَّه جمعها بعد وفاة النَّبي بما يقارب قرنين من الزَّمان!

لنضع تصوُّرًا بسيطًا لكيفيَّة وضع هذا الكتاب كي نرى إن كان يستحق وصفه فعلًا بالـ"مسخرة.

ثمانية عشر عامًا يضرب "البخاريفي الأرض بحثًا عن تابعي الصَّحابة، وتابعي تابعينهم، يجمع منهم الحديث بأصعب شرط، والشَّرط غربال تنقيةتقول الأسطورة إنَّ "البخاريتمكَّن من جمع ستمائة ألف حديثسنؤيِّد كلام القائلين بأنَّ هذا العدد خياليّ جدًّا، مرتكزنا في التأييد هو أنَّ العرب هواة مبالغة على كل حال، سنقول إنَّ عُشر هذا العدد هو ما أمكن للبخاري تحصيله، أي ستِّين ألف حديث، عكف عليهم الرُّجل بعمل مؤسَّسي علمي فاستخرج منها ما يقارب الثَّلاثة آلاف حديث فقط وضعهم في صحيحه، ثم لم يكتف بذلك الجهد الشَّاق، بل قَطَّع هذه الثَّلاثة آلاف حديث في أبواب فقهية فيرتفع ترقيم هذه المُقطَّعات مقاربًا للثمانية آلاف، ويبارك كلّ أئمَّة علوم الحديث والجرح والتَّعديل، قديًما وحديثًا، عمله، ليأتي في آخر الزَّمان الشَّيخ "ميزوليطلق على كل هذا العمل المضني لفظ "المسخرة"!

هناك كلام عن أربعين حديثًا معلومة يعتريها الضَّعف، أربعين حديثًا من ثلاثة آلاف كافية فعلًا لإطفاء هالة القداسة عن كتاب "البخاري"، الذي هو "في الأول وفي الآخرتأليفٌ بشريٌّ غير منزل من السَّماء، يُؤخذ منه ويُرد عليه.

لكن هل أربعين حديثًا ضعيفًا معلومة تمنح الحق لناقد هذا الكتاب كي يصفه بـ"المسخرة"؟

هل الخطأ بنسبة واحد على مائة في عمل ضخم قام به رجل بإمكانيَّات القرن التَّاسع الميلادي تجعل من حق "التنويريِّينوصفه بـ"المسخرة"؟!

هل إزالة "القداسةعن "البخاريتعني عدم رفع القبَّعة احترامًا لهذا الجهد الإنساني الضَّخم الذي قام به؟!

هاجت الرُّوح الحرَّة للصَّحافي "التَّنويري!" من فرط حدَّة وتخلُّف ردود العلماء القاسية على وجهة نظر الشَّيخ "ميزو"، وقد وصفته بالسَّفيه مرَّة، ووصفته بالخارج على الإسلام مرَّة أخرى، ولم تهيج روحه المهذَّبة ضد هذا "الشَّيخالذي، والحق يُقال، كان البادئ بالسَّفاهة والسَّفالة وقلَّة الأدب.

هذا مثال واحد من عشرات الأمثلة التي توضِّح كيفيَّة تعامل "المثقَّفين التَّنويريين!" مع القضيَّة "الإسلاميَّةفي العموم، والقضيَّة "الأزهريَّةالمستحدثة بالخصوص.

كيفيَّة غير موضوعيَّة لن تدفع في اتِّجاه إصلاح حقيقي للفهم الدِّيني، ومن ثمَّ الخطاب الدِّيني، بل ستؤدِّي إلى تصاعد الفعل الإرهابي إلى ما هو أقوى وأعنف، تصاعدًا سيكون الفضل الأوَّل، والأخير، في تفجيراته الانشطاريَّة لمثقَّفي تنوير هذا العصر وزعيمهم الشَّيخ "ميزوشيخ مشائخ زمن "الفشخرا".

 

 

 

مجلس "الفردة الشِّمال"! 

مجلس واحد للشَّعب المصري مع أنَّ الشَّعب المصري "شعبين"!

في "مصر" "جوز شعب"، أو "فردتين شعب" متناسقتان تمامًا، الفردة اليمين: شعب تعداده بالملايين! تسعين مليون أو أكثر، فقراء لا يملكون "حاجة".

والفردة الشِّمال: شعب بالألوفات، تسعين ألف أو أقل، أغنياء درجة التَّوحُّش، يملكون "كل حاجة".

هنا شعب مُتضخِّم عددًا مفلس ماديًّا، وهناك شعب شرذمة قليلون لكنَّه مُتضخِّم ماديًّا.

الضَّخامة الاقتصاديَّة، أو العملقة الماديَّة، آفة مُفسدة، مرض يؤدِّي حتمًا إلى تكوين ورم خبيث اسمه رغبة الانخراط في سلك السُّلطة لتحقيق هيمنة تهدف إلى تحقيق احتكارات أخرى داخل السُّوق كي "تزداد" "الفردة الشِّمال" ثراءً على ثراء في الوقت الذي "تزداد" فيه "الفردة اليمين" فقرًا على فقر.

التَّناسق بين الفردتين يبقى قائمًا طالما أنَّ الإثنتين "بيزيدو"!

النِّظام الدِّيموقراطي ابتكر مجلسًا لنوَّاب الشَّعب، يجلسون تحت القبَّة المهيبة ليشرِّعوا له قوانين تعمل على فك زنقته، ومسايسة فقره "الدَّكر" حتَّى يتمكَّن من قنصه.

نوَّاب منه، عانوا معاناته فيتكلَّمون بلسان حاله تحت قبَّة "البرلمان".

لكن "الفردة اليمين" من الشَّعب فقيرة، إذا كانت لا تملك ما تُنفق به على بيوتها هشَّة المصاريف فكيف لها الإنفاق على عمليَّة انتخابيَّة عصبها دعاية، وإعلان، وعطايا، وهبات، ورشاوي انتخابيَّة بمئات الآلاف من الجنيهات، إن لم تكن ملايين؟!

هنا تظهر "الفردة الشِّمال" بكامل ثرائها، مثل ثعلب في ثياب قدِّيس، أو غني في ثياب فقير، يعطي من طرف اللسان حلاوة، "يتمحَّك" في الفقراء بجميع أنواع "التَّمحُّك"، المشروع وغير المشروع، ناثرًا وعوده بأنَّه فور وصوله للبرلمان سيعمل مجتهدًا جاهدًا حهودًا على حل مشاكلهم المستعصيَّة، ولأنَّ "الفردة اليمين" ليست فقيرة مال فقط، وإنَّما فقيرة عقل، و"هبلة على نيَّاتها"، تخوض المعمعة الانتخابيَّة على قدم وساق، بل تأخذها الحماسة حدّ الاقتتال فيما بينها من أجل فوز مرشَّح من "الفردة الشِّمال"، لتكتشف بعد عدَّة أشهر أنَّها ذهبت عطشانة تشرب السَّراب!

راغ النَّائب "الشِّمال" كما يروغ الثَّعلب!

فأحسنها نائب "عُقر" هو من يحل لبعض أهل دائرته بعض مشاكل "شخصيَّة!"، من قبيل التَّدخل للإصلاح بين مُتنازعَين على حدود غيط، أو إخراج مقبوض عليه من حبس الشُّرطة، أو استخراج تصريح مباني لأحدهم، أو مساعدته في الحصول على قرض من بنك، وهكذا.

أمَّا النَّائب "اللي ما ولدتوش ولَّادة" فهو الذي يتمكَّن من الحصول على موافقة إنشاء كوبري، أو مدرسة، أو مستشفى، أو مد طريق يحتاجه أهل الدَّائرة.

النَّائب "العُقر" مثله مثل النَّائب "اللي ما ولدتوش ولادة"، يوافق على القوانين المؤذية للنَّاخب ذات التَّأثير طويل المدى، التي تسنّها حكومة كل عناصرها من "الفردة الشِّمال"، قوانين "تشحتف" المستأجر "من الفردة اليمين" وتسلِّمه "سلام يد" للمالك "من الفردة الشِّمال"!

"الفردة الشِّمال" لن تخون أهلها المُلَّاك لصالح "الفردة اليمين" المستأجرين، والنَّائب "العُقر" في النهاية مالِك يهمه فعل كل ما من شأنه التَّرسيخ لطبقته من المُلَّاك، لا المستأجرين "الهِبل ولاد الصَّرمة الجِزَم".

وهكذا، بينما يسعى النَّائب "العُقر" في إنقاذ أحد الغلابة من حبس البوليس، بحركة جريئة يستعرض فيها سطوته أمام أهل الدَّائرة، إلَّا أنَّه يتملَّق وزارة الدَّاخلية وراء الكواليس، يكاد "يطبطب" على ردفيّ كل ضابط فيها، فتوطيد العلاقات مع هذه الجهة السَّنية يعني ضمان ارتباطه بأحد أهم فروع السُّلطة التَّنفيذية، بالتالي، فإنَّه حين يجدّ الجد تحت قبَّة "البرلمان"، لن يساهم بأي حال في الدَّعوة إلى سن "تفتوفة" قانون يمكنه المحافظة على كرامة ابن دائرته "الغلبان" من أن تفتك بها براثن التَّطرف الشُّرطي!

كما لن يضغط على الحكومة باستجوابات تدفع في اتِّجاه ضمان كرامة الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة، فهو من "الفردة الشِّمال" التي تضامن كرامتها "بفلوسها وسلطتها".

لكن "إن جينا للحق" تستحق "الفردة اليمين" كل ما "يجرالها"، فهي فردة كما أشرنا سابقًا، ناقصة عقل، وعبيطة حدّ الغباء، إذ تجلس أمام الشَّاشات وتنبهر بالمناظر، تعشق السَّادة، وتمارس السِّيادة على نفسها! فعندما ظهر أوَّل مجلس شعب يمثل "الغلابة"، بعد 25 "يناير" 2011، وظهر فيه أعضاء يُعبِّرون عن فقر ماديّ، وضحالة فكريَّة، كأهم سِمتين من سمات "الفردة اليمين"، أُصيبت "الفردة الشِّمال"، التي تستحوز بسطوتها وفلوسها على "التِّلفزيون" و"الإعلام"، بالجنون، و"هاتَك يا لقطات" التُقطت خصِّيصًا لإظهار عوار نوَّاب هذه الفردة اللئيمة، التي تمرَّدت على أسيادها، سُلِّطت "الكاميرات" و"الكشافات" على عمنا "إسماعيل" وهو يؤذِّن تحت القبَّة، لطمت "الفردة الشِّمال" بدعوى قلَّة ذوق هذا الرَّجل الذي يؤذِّن داخل "البرلمان"! وبدلًا من أن تقوم "الفردة اليمين"، المتديِّنة بالفطرة، بمؤازرة نائبها المُعبِّر عن تديُّنها الفطري سخرت منه! سُلِّطت "الكاميرات" و"الكشافات" على عمِّنا "البلكيمي" وأنفه الشَّامخ! تناولت "الفردة الشِّمال" قضيَّته الشَّخصية على أنَّها أمر عام يمكنه قضّ أركان جمهوريَّة "مصر" العربيَّة فيزيلها من الوجود العالمي! وبدلًا من أن تؤازر "الفردة اليمين" نائبها الغلبان، "اللي بيمكر مكر فلَّاحين مِش أكتر"، أي يمارس فعل "الغلابة" عامَّة عموم الشَّعب، إذا بها تقرِّع نائبها، تمسح بكرامته الأرض، لا لشيء إلا الامتثال لخطَّة ثعالب "الفردة الشِّمال" الموضوعة بالأصل لتشويه نوَّاب "الفردة اليمين"! كما لن ننسى حماقة هذه الفردة عندما "رزعت لايك كبير جدًّا" لقرار "الفردة الشِّمال" بإدانة عمِّنا، وتاج راسنا، الشِّيخ "علي ونيس"! فقط لأنَّه استفرد بـ"المُزَّة بتاعته" في سيَّارته "الكُحِّيتي" على الطَّريق الدَّائري! ما يعني معاناتها من غباء مفرط فعلًا! فما فعله الرَّجل دليل أكيد على أنَّه منهم، من الشَّعب "الكَحْيان"، فقير حدَّ أنَّه لا يستطيع الاستفراد بـ"مُزَّته" في فندق فخم، تحت رعاية وخدمة إدارة الفندق كما يفعل نوَّاب "الفردة الشِّمال"! فيمارس ما يمارسه أي رجل "هَيْجان" من رجال "الفردة اليمين" يمتلك سيَّارة بسيطة، يضع الـ"مُزَّة" فيها، ويسحب بها على "الدَّائري"!

اتَّضح أنَّ "الفردة اليمين" ينطبق عليها المثل القائل "أقرع ونُزهي" انطباقًا تامًّا، فقيرة ومع ذلك تريد أعضاء مجلس شعب "يملوا العين"، لا تقتنع بعضو منها، يعاني ما تعانيه من سذاجة وعبط، وإنَّما يعجبها العضو النَّصاب "اللي يعرف يلعب بالبيضة والحجر"، و"الحرامي الشاطر" أحسن من رجل أمين "يلبِّسنا في الحيط".

لذلك لا يجب الاهتمام كثيرًا بإفرازات انتخابات مجلس الشَّعب المصري، لأنَّه في النِّهاية يُمثِّل زيت الشَّعب في دقيقه، فهو مجلس "الفردة الشِّمال" اللامعة، التي سيجلس ممثِّلوها تحت القبَّة يُشرِّعون لمصالحهم كملَّاك كبار، برغبة مخلصة ومعاونة صادقة من جماهير "الفردة اليمين" الكادحة، التي ينقصها الوعي درجة أنَّها، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين، لُدغت العديد من المرَّات، حتَّى صارت تستمرئ اللدغ فتسعى حثيثًا باتِّجاه العقارب!

  

 

 

"جنازة ثانية لرجل وحيد" تعبر "باب الليل" نحو "الكتاب الأمريكاني". 

منذ عدَّة أسابيع أنهيت قراءة هذا الكتاب الشَّائق، الذي يمكن اعتباره من نوعيَّة كتب أدب الرَّحلات؛ خفيف العبارة، سهل الجملة، رشيق الكلمة، يسلك أسلوبه بسلاسة دربًا وسطًا بين دلال الأدب وصراحة الصَّحافة؛ أكلتني يدي للكتابة عنه بأسرع ما يكون، غير أن واضع هذا الكتاب هو نفسه رئيس تحرير الموقع الصَّحافي المزمع نشر المقالة بواسطته! ما يعني أنَّ أي كلمة ثناء قد يحملها المَكَّارون على المحمل الخطأ؛ وأنا أعاني من فوبيا "الأفهام الخاطئة"، لذلك قررَّت الاكتفاء بمهاتفة كاتب هذا المؤلَّف، الصَّحافي "محمَّد هشام عبية"، وإبداء إعجابي وامتناني له، وشكره على هذه المتعة التي قدَّمها لنا بين دفَّتي مطبوعته المعنونة بـ"الكتاب الأمريكاني"، وقد سطر فيها ملحوظاته عن الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة من الدَّاخل، وكان قد التقطها خلال رحلة إليها ضمن وفد من الصَّحافيِّين العرب، استمرت لواحد وعشرين يومًا.

بعد انتهاء المكالمة غيَّرت رأيي مقرِّرًا الكتابة عن هذا "الكتاب الأمريكاني"! فمن حقّ الجميل الإشارة إلى جماله، وشكر جماله، وتمجيد جماله، وألَّا تجبرنا "الأفهام الخاطئة" إلى غمط الجميل حقوقه الواجبة علينا؛ ستكون خطَّتي هي الكتابة عنه بشكل غير مباشر، يمكن مثلًا الاستعانة بمجتزءات منه في بعض مقالاتي، أيُّ شيء أعبِّر به عن امتناني للكتاب دون السُّقوط في فخِّ "الأفهام الخاطئة".

إنَّها الفوبيا ما زالت لصيقة بعقلي!

اللعنة على الحيرة!

سأكتب عن هذا الكتاب بوضوح، وبـ"المفتشر"، وليذهب أصحاب "الأفهام الخاطئة" إلى الجحيم، وكذلك الفوبيا إيَّاها!

ولم أكتب!

بل كتبت في موضوعات أخرى، وعن كتب أخرى، بينما بقي "الكتاب الأمريكاني"، وموقفي منه، يلحَّان عليّ بضرورة اتِّخاذ موقف لصالح الجمال، لا لصالح "الفوبيا"!

ليكن، لكن موضوعًا هامًّا داهمنا في اليوم الثامن من شهر مارس أولى بالكتابة فيه، خاص بـ"المرأة"؛  إنَّه يومها العالمي، واليوم الواحد والعشرون، من نفس الشَّهر، سيكون يوم أمِّها!

والحقيقة أنَّ الأيَّام العالميَّة للمرأة" موضوع بالغ الاتساع، لا يمكن لأي كتابة الإحاطة به، كما أنَّه مثل الفراغ الفضائي، لا يتوقَّف عن التَّمدُّد، مع ذلك يُلفت انتباهنا إلى شيئين واضحين: سذاجة المرأة، وسطحية الرجل. وأنَّ هذا العالم المتقدِّم يغيب ويحن إلى أيَّام مراهقته الأولى!

فالرَّجل لا يفتأ يُذكِّر المرأة بتاريخ سيطرته القديم، وباستمراريَّة هذه السَّيطرة درجة تحديده بنفسه أيَّام أعيادها! وكأنَّ المرأة تنتمي إلى طائفة من الأقليَّات يُظهر لها، بابتكاراته المناسباتيَّة العالميَّة هذه، عظيم "جنتلته" و"شياكته" الشُّعورية تجاهها! أو كأنَّها كائن ذو ظروف خاصَّة فيحضّ، عبر ابتكاراته المناسباتيَّة العالميَّة هذه، أهل الخير على الإحسان إلى هذا الكائن المسكين، والتَّفضُّل عليه بالموجود، "والجودة بالموجود".

أمَّا المرأة، التي لا تكفّ ليل نهار عن قذف أطروحات المساواة في وجه الرَّجل، خصوصًا الحنجوريات منهن، ممَّن أفسد دخان المقاهي الثَّقافية أحبالهن الصَّوتية فأغلظها من بعد رهافة، وخشَّنها من بعد نعومة، وذكَّرها من بعد أنوثة! فإنَّها أوَّل المسرعات إلى تلقُّف ما تنتجه عقول الرِّجال من ابتكارات مناسباتيَّة عالميَّة بلهاء تقل من شأنهن!

فالمرأة المصريَّة المطالبة بالمساواة، مثلًا، سعيدة جدًّا بتخصيص عربات خاصَّة لها في "مترو" القاهرة، بل تسارع الواحدة منهن إلى ضرب رأس أي رجل يخطئ، أو حتَّى يتعمَّد الخطأ، بالدُّخول إلى عرباتهن بقباقيبهن، واختياري لمصطلح "القبقاب"، وليس "البوت" أو "الحذاء" أو "الباليرنا"، فلأنَّهن بارتضائهن العزل بينهن والمجتمع الرِّجالي فكأنَّهن، بالضَّبط، حريم الحرملك العثماني، أو المملوكي، الجالسات خلف المشربيَّات في البيوت المخصَّصة للنِّساء، أولئك لم يكنَّ يضعن في أرجلهن "أبواتا" ولا "أحذية" ولا "باليرنات"، وإنما الـ"قباقيب"؛ كما أنَّ المرأة المصريَّة سعيدة للغاية بتخصيص "طوابير" لها في أيّ مصلحة حكوميَّة أو خاصَّة! تكاد تطير فرحة بمكانها المنعزل عن الذُّكور في كلّ قاعة جامعيَّة.

ومع سعادتهن، وتمتُّعهن باللا مساواة، لا يتوقَّفن عن الصّراخ بطلب المساواة!

ربما هذا التَّناقض، وهذه "الهيافة" العقليَّة، يجعلان المرأة "دِيرة" رأس الرَّجل، وخفقان قلبه ووجيبه، كلَّما تمتَّعت المرأة بنصيب أكبر من "الهيافة" و"التَّناقض" صارت دلُّوعة الرَّجل، ومحطّ حبِّه وعشقه، في حين كلَّما ابتعدت عنهما لصالح "الرَّزانة" و"ثقافة الثِّقة" قلَّ نصيبها جدًا من قلب الرَّجل!

في "باب الليل" قدَّم الرِّوائي المصري، "وحيد الطَّويلة"، احتفاءًا هائلًا بهذه المرأة المتناقضة، "هايفة" العقل، المهمومة بالحبِّ غاية ووسيلة ووطنيَّة ووظيفة لأكل العيش، حتَّى أنَّ "أبو شندي"، المناضل الفلسطيني المنهزم فلسطينيًّا على أرض تونسيَّة! ضاع وهجه، كرجل مقاومة، في حضور وهج هؤلاء العاهرات!

ولتأكيد هذه الملحوظة لا مانع من إجراء تجربة لن يستنزف أداؤها، ممَّن قرأ هذه الرِّواية، كثير جهد، أو طويل وقت؛ هي كالآتي: اشحذ ذهنك، بحرفيَّة ومهارة ودقَّة، قم بنزع حكايات المرأة عن "باب الليل"؛ ماذا يبقى من الرِّواية؟

تبقى حكايات المقاومة. ستجد أنَّها حكايات باردة، تفتقد الطَّزاجة، بل ربما أكثرها مُفتعل لإضفاء عمق ما إلى موضوع الرِّواية الأساسي؛ إذن ستسقط "باب الليل" سقوطًا مزريًا.

أعد إجراء التَّجربة، اشحذ ذهنك بنفس الحرفيَّة والمهارة والدِّقة، قم بنزع حكايات المقاومة؛ ماذا يبقى من "باب الليل"؟

تبقى الرِّواية الحقيقيَّة.

"باب الليل" الأصليَّة، حيث المرأة موضوعها الأساسي؛ ستلاحظ أنَّ رهافة سرد "الطَّويلة" في صياغة الجملة تزداد تألقًا كلَّما ارتكزت المرأة في قلب هذه الجملة، حتَّى لكأنَّه يهتم بتفجير الشَّاعرية الكامنة داخل كلمات هذه الجملة تحديدًا، والحقيقة أنَّه حيثما تكون المرأة يكون الشِّعر، وحيثما كان الشِّعر كان المُغنِّي، و"وحيد الطَّويلة"، بعد أن قرأت له روايتين حتَّى الآن، لا يسعى إلى كبح جماح غنائيَّته لصالح الرِّوائي داخله، بل "يدندن" صياغة الجملة، يحرك أبطاله بخيوط مُقيِّدة، كأنَّه فنَّان الموالد البسيط، الذي أبهر البسطاء قديمًا كمحرِّك حداثي لخيالهم، ويُبهر مشاهدي هذا العصر عندما يطلع عليهم كقطعة حيَّة، عتيقة، تطل من الزَّمن الجميل.

وإن كان "الكتاب الأمريكاني" زاخرًا بالمشاهد بالغة الدَّلالة حول الدَّولة الأمريكيَّة العملاقة، فإنَّ لقطة واحدة، سريعة، أمكنها تلخيص كلّ هذا المجتمع الضَّخم ونقلِه إلى داخل حدود إدراكي بمنتهى الخفَّة والرَّشاقة، عندما كتب مؤلِّفه: ابتعت العدد الأسبوعي من "نيويورك تايمز"، الذي يصدر كل أحد، بستَّة دولارات كاملة، لكنَّه عدد دسم "ملظلظ" بدرجة لا يصدِّقها عقل، وسيحتاج المرء لأكثر من أسبوع للانتهاء من قراءته، إذ يضم الإصدار اليومي التَّقليدي من الجريدة في 20 صفحة، وملحقًا في 12 صفحة عن الشُّؤون الدُّولية، وملحقًا ثانيًا في 14 صفحة عن السَّفر وأماكن الفسح، وملحقًا ثالثًا في 22 صفحة عن آخر خطوط الموضة للرِّجال والسَّيدات، ثمَّ ملحقًا رابعًا في 26 صفحة عن الفنون والتَّرفيه، ثمَّ ملحقًا خامسًا في 60 صفحة كاملة يضم عروضًا للإصدارات الجديدة والمهمَّة من الكتب، ثمَّ ملحقًا سادسًا متخصِّصًا في الاقتصاد في 10 صفحات، وملحقًا سابعًا في 12 صفحة لمقالات الرَّأي، وأخيرًا يضم ملحقا ثامنًا في 10 صفحات للرِّياضة.

لقد أمكنتنا هذه اللقطة من تحديد اهتمامات هذا المجتمع بعدد صفحات كل ملحق من ملاحق هذه الصَّحيفة الأمريكيَّة العريقة؛ ستُّون صفحة كاملة للأدب والكتب! إنَّه أكبر ملحق! أمَّا قوَّتهم الاقتصاديَّة الضَّاربة، المحرِّكة للعالم كلّه، فلا تحظى إلَّا بملحق من عشر صفحات فقط!

لكن من قال إنَّ قوَّة أمريكا الضَّاربة هي الاقتصاد؟! إنَّ قوَّتها الحقيقيَّة داخل الملحق "أبو ستِّين صفحة"!

عمومًا، ليس كل ما قلّ عدد صفحاته أمره هيِّن، غير ذي خطر، فلقد قرأت شيئًا جميلًا، لافتًا، في عدد قليل من الصَّفحات، لم يتجاوز المائة، كتبته أديبة مصريَّة شابَّة، سطرته بهذه الرُّوح المتناقضة ذات "الهيافة" العقليَّة، الرُّوح الطُّفولية القادرة وحدها على ممارسة الفعل الإبداعي؛ هذا الشَّيء وضع النَّاشر على غلافه كلمة "متتالية" كتوصيف له!

ما المتتالية؟!

لي رأي قد لا يعجب كثيرين في موضوع "المتتالية" هذا، لن أخوض فيه الآن، لكن هذه الأديبة الشَّابة، "دعاء إبراهيم"، أبدعت فعلًا في "متتاليتها!" المسمَّاة بـ"جنازة ثانية لرجل وحيد"، إذ قدَّمت جديدًا في كلّ أنحاء عملها، بدءًا من تسمية العنوان، مرورًا بالإهداء، حتَّى متن روايتها الزَّاخر بالموت الحي، أو الحياة الميتة!

فـ"جنازة ثانية لرجل وحيد" رواية تجريبيَّة من العيار الثَّقيل، لا يمكن لبنت عاقلة مثقَّفة، أعتم دخان المقاهي الثَّقافية الرُّؤية أمام روحها السَّاردة، أن تكتبها بحداثة التَّناول السَّردي لـ"دعاء إبراهيم"، ولا بروحها الوثَّابة، المتنمِّرة، الرَّاكضة برشاقة نحو صيَّاد تظنُّه فريستها! تستمتع إلى المنتهى باللامساواة في حين لا تتوقَّف عن الصُّراخ بطلب المساواة!

وأظنُّ أنَّ "دعاء" قدَّمت دليلًا مضافًا على أنَّ المرأة، حين لا تتكلَّف أثناء الكتابة، حين لا تجعل الرَّجل نُصُب قضاياها العدائيَّة، حين تمارس "هيافتها" الفكريَّة بطبيعتها المتناقضة، تبدع جدًّا.

كما خرجت "باب الليل" دليل إدانة بالغ الوضوح للمثقَّف الذي يعيب على السَّلفيين الدِّينيين، في أي ملَّة، ولعهم بالمرأة؛ فبطل هذه الرِّواية، "أبو شندي"، هذا المناضل الفلسطيني المهزوم مجتمعيًّا، وجنسيًّا أيضًا، الذي يسخر من الجهاديِّين الدِّينيين لفرط شغفهم بالنِّساء، هو نفسه صريع الهوس الأنثوي،وربما بأشدّ ما يفعل الدِّينيون!

لكن: ما الذي يضير الرَّجل، من أي صنف أو ملَّة، عندما يُولع بالمرأة؟!

هل يمكن لأحدهم وصف نفسه بالرُّجولة لو لم يحي ممسوسًا بالهوس الأنثوي؟

 

        

  

رُغم كل الأمور الطَّارئة

رأيت، فيما يرى المسافر على الطَّريق الصَّحراوي الشَّرقي، منظرًا مذهلًا!

كنت أقود سيَّارتي عائدًا من "سوهاج" إلى "القاهرة"، على الأريكة الخلفيَّة قفص صغير يحتوي على ثلاثة أزواج من الحمام البلدي، "أم كلثوم" تغنِّي "أمل حياتي"، صوت المحرِّك هادئ، فرد حمام لا يكف عن الهديل الصَّاخب داخل القفص! الطَّريق آمن، غير مزدحم، ما يعني أنَّ فرصًا جيِّدة مُتاحة لذهني كي يمارس متعة السَّرحان لدقائق متقطِّعة، وخاطفة.

قبل زيارتي لـ"سوهاج" كنت في "الأقصر" لشؤون عائليَّة وإبداعيَّة، شعرت هناك برغبة تدفعني إلى اللف والدَّوران على أماكن عايشت طفولتي، كأنِّي أسعى لوخز القلب بالذِّكريات حتَّى يقطر شجنًا؛ هل يستمتع الإنسان بمعاقرة الشَّجن؟! لكن، وإن كانت الذِّكريات مُرَّة فإنَّها المرارة التي تعالج الأفئدة حين تقسو؛ رأيت "الحضانة" القديمة في شارع "المحطَّة"، "الكي جي بتاعتي!"، ما زالت قائمة بنفس عمارتها البسيطة، لا أحمل لها ذكريات غير ولعي بحديقة ألعابها المحدودة، خصوصًا الدَّراجة ثلاثيَّة العجلات، تمنَّيت في طفولتي لو أمتلك واحدة مثلها، أمنية ذهبت سدًى مع العديد من أمنيات الطُّفولة، تلك المرحلة العمريَّة التي لا يمتلك الإنسان فيها نفسه، ولا إرادته، يكاد يكون مملوكًا لوالديه، ووالداه مملوكان للأحوال والظُّروف! 

رأيت مدرستي الابتدائيَّة، "الرَّاهبات الفرنسيسكان" من الخارج، لم أحاول دخولها لأعرف إن كان حوض السَّمك باقيًا وسط فنائها أم أنَّ التَّطور أدَّى إلى إزالته، لكني أحسست بطيفي ينطلق إلى الدَّاخل، يستحي من طيف البنت "عزَّة"، يختبئ من طيف "ألفت"، يرمق طيف "أمل"، ينزوي تحت الشَّجرة الكبيرة في صمت عندما يباغته طيف "إيمان". طيف الميس "سعاد" في ملابس الرَّاهبات يدير المدرسة ببشرة سمراء وجمال فرعوني خارق. طيف "الأبله مارجريت" تعلِّمنا الحساب بوجه مكوَّر كمقدِّمة قاطرة ألمانيَّة عتيقة. طيف الشَّيخ "متولي" الذي تستدعيه إدارة المدرسة لشرح الدِّين الإسلامي، وما أن يأتي ميعاد حصَّة الدِّين حتَّى يتم التَّفرقة بين التَّلاميذ رفقاء الفصل الواحد، يبقى التَّلاميذ المسلمون، الأغلبية، في أماكنهم، بينما يُدفع بالتَّلاميذ المسيحيِّين، الأقلية، إلى خارج الفصل بمعرفة الإدارة المسيحيَّة للمدرسة!

"يا أحلى غنوة سمعها قلبي"؛ السَّيارة تنزلق على الطَّريق إذا انحدر، تتسلَّقه إذا صعد، أرى مصانع "جهينة" للأغذية قائمة على مساحات كبيرة في الصَّحراء، مساحات أخرى تشغلها شركة "كوكا كولا" للمشروبات الغازيَّة، ثمَّ تتحوَّل الصَّحراء الصَّفراء إلى آكام، وهضاب، وجبال أصابتها السُّيول والرِّياح إصابات بالغة كشفت عن طبقاتها الرُّسوبية المتكلِّسة! فرد الحمام لا يتوقف عن "البرجمة"، أحيانًا يضرب بجناحيه، أتململ خلف عجلة القيادة مانحًا الفرصة لجسدي كي يأخذ وضعيَّة جلوس أفضل، الاسترخاء النَّاتج عن الانتشاء؛ فقد كان اليوم الذي قضيته ببيت الشِّعر في "الأقصر"، مشاركًا في المؤتمر الذي نظَّمته إدارة البيت، رائعًا؛ موضوع هذه الفعالية الأدبيَّة هو: العلاقة بين "الشِّعر" و"السَّرد". استقبل الشَّاعر المصري "حسين القباحي"، مدير البيت، ضيوفه بترحاب وكرم شديدين، حرص على انضباط مواعيد المناقشات، قدَّم طعامًا لجميع المشاركين والحاضرين، الشَّاي والقهوة والسَّاقع مشروبات متاحة طوال الوقت، ما انعكس على أجواء المؤتمر ليخرج مؤتمرًا كبيرًا رغم أنَّه من نوعيَّة مؤتمرات "اليوم الواحد". بيت الشِّعر هذا بيت فخيم، مزوَّد بكل وسائل الرَّاحة والتَّرفيه، أقيم بأموال إماراتيَّة، كما يتم الإنفاق على أنشطته بأموال إماراتيَّة مخصصَّة له، في كل دولة عربية هناك بيت للشِّعر تقوم على خدمته ميزانيَّة إماراتيَّة، يحيلنا هذا إلى تأمُّل الواقع الثَّقافي العربي الذي كاد يصطبغ بالصبغة الإماراتيَّة، فأهم المجلَّات الثَّقافية تصدر في "الإمارات"، وأهم المسابقات الأدبيَّة تشرف عليها مؤسسَّات الثَّقافة الإماراتيَّة، وإن دلَّ هذا على شيء فهو الوعي الإماراتي الكبير بدور الثَّقافة في ترسيخ نهضات الدُّول، فأي نهضة اقتصاديَّة لا تواكبها مؤازرة ثقافيَّة هي نهضة بلا جذور.

بيت الشِّعر في "الأقصر" يطلّ على مشهد أثريٍّ عظيم، "طريق الكباش"، الطَّريق الذي تمَّ الكشف عن معظمه منذ سنوات قليلة، قبل25  يناير 2011، في سبيل الكشف عنه تمَّ إزالة ثمانية مساجد كبيرة، أحدها مسجد "المقشقش"، وهو مسجد أثري، في حين بقيت كنيستان تقطعان اكتمال هذا الطَّريق الفرعوني، تستعصيان على الإزالة حتَّى الآن!

المشهد الذي رأيته على الطَّريق الصَّحراوي الشَّرقي، قبل قبل 22 كيلو مترًا من مدينة "المنيا"، مذهل؛ أقصد كارثي.

اختفت الجبال الصَّفراء لتظهر على مدى الرُّؤية جبال جيريَّة بيضاء، و"لوادر" ومعدَّات تقتطع منها لبنات برَّاقة البياض، شاحنات تنوء بحمل الآلاف منها، سحابات كبيرة من طيور الحمام الجبلي تناور في الفضاء، صوت السِّت فوَّاح بالشَّوق:" "يا حبيب امبارح وحبيب دلوقتي".

في بيت "حنين"، مسيحي كان يبيع الخمور في أحد حوانيت شارع المحطَّة، عشت طفولتي الأولى، البيت كائن في شارع "الجنينة"، شارع مسيحي بالكامل، عندما غادرنا هذا البيت غادرناه إلى بيت أمّ "زكريَّا" شرق السِّكة الحديد، منطقة ذات أغلبيَّة مسيحيَّة؛ أذكر أنَّ أوَّل احتفالاتنا كأسرة مسلمة بـ"البلابيصة"، وأعياد "شمّ النَّسيم"، و"حدّ الخوص"، وجميعها أعياد فرعونيَّة ذات سمت مسيحي، كانت في بيت "أم زكريَّا"، ثمَّ انتقلنا أخيرًا إلى بيتنا في منطقة "الخور"، لنجاور بيت "نعيم"، سائق أحد أوتوبيسات هيئة النَّقل التي تربط "الأقصر" بقرى "الحبيل"، مسيحي لا يعاني من عقدة الإحساس بدونيَّة الأقلِّية، يتمتَّع بشعبيَّة مهولة على طول خطّ "الحبيل"، ولخفَّة دمه وحميميَّته و"جدعنته" كان الرُّكاب الدَّائمون، على هذا الخط، يهادونه بخيرات القرى من جبن وزبد وبيض وتمر ودقيق وأعواد القصب، عندما ينتهي من ورديَّته يستريح في بيته قليلًا قبل أن يخرح إلى المقاهي ليجلس مع المسلمين، يسلقهم "تريقة" وسخرية نابعتين من قلب عِشري، يشغِّل الرَّاديو كل صباح على إذاعة القرآن الكريم بأعلى صوت، زوجته "أم وجيه" تتبادل الزِّيارات مع جيرانها المسلمين، وهدايا المناسبات، ولداهما "وجيه" و"ماجد" أوَّل سلسلة أصدقائي؛ رحل "نعيم" إلى الملكوت منذ سنين، بقيت "أم وجيه" تصل الود، قلت لها أكثر من مرَّة إنَّها أمِّي الثَّانية، تكلَّمت معها في هذه الزِّيارة بخصوص كيفيَّة أداء بعض الطُّقوس الكنسيَّة الواردة في روايتي قيد الكتابة، قالت لي ضاحكة: و"الجبنيوت" أنت عارف عن الكنيسة أكتر مني.

المسلمون والمسيحيُّون في "مصر" كائن حي تتداخل عظامه في لحمه، ينبني لحمه على عظامه، قلب واحد يضخّ الدَّم لكليهما، عقل واحد يعمل لصالحيهما.

"يا حبيبي لبكرة ولآخر وقتي"؛ أسفلت الطَّريق الصَّحراوي الشَّرقي يسوء، شوَّهته شروخ عميقة، الواحد منها كفيل بالتَّسبُّب في حادثة قاتلة، "فنجلة" العيون مطلوبة جدًّا، كذلك الاتِّساق العصبي التَّام للتمكُّن من تفادي هذه الشُّروخ بسرعة ومهارة دون الانزلاق بعيدًا عن الحدود الآمنة للطَّريق! يضرب فرد الحمام بجناحيه، يزداد صخب هديله الغاضب، ترتفع درجة الحرارة مع ترك الشّمس للضُّحى واختراقها للظَّهيرة.

ما الذي يوحي به وجود عسكري الحراسة، التَّابع لوزارة الدَّاخلية، أمام بوَّابات الكنائس وحولها؟ غالبيَّة المسيحيِّين يضايقهم وجود هذا العسكري فلماذا الإصرار عليه؟ هل أفلح وجوده في إنقاذ أي كنيسة تم استهدافها حتَّى يستمر جالسًا على مقعده بلامبالاة، كلّ همّه إطلاق نظراته النَّهمة تتبَّع الجميلات الدَّاخلات للكنيسة، والخارجات منها؟! وجود عساكر الحراسة أمام أبواب الكنائس وحولها لا يعني سوى وجود خطر داهم يواجهه المسيحيُّون من المسلمين عمومًا! أمَّا عمليَّة إرهابيَّة كلّ بضع سنين تقع بسبب السِّياسات الخاطئة للنِّظام الحاكم، وربما بتدبير مخابراتي، كما كشف تفجير كنيسة القدِّيسَين بالإسكندريَّة، فلا تبرِّر وجود هذه الحراسة الدَّائمة لكل كنائس "مصر" بهذا الشَّكل السَّاذج لأكثر من عدَّة عقود متوالية!

هل هناك رغبة في إبقاء "الإسفين"، الذي زرعته أياد خبيثة خفية، مغروسًا في ظهر العلاقة بين مسيحيي "مصر" ومسلميها؟!

كل الحماقات التي قد ترتكبها الحكومة، بخصوص هذه العلاقة، ربما تُحتمل، لكن أن يصل الأمر حدّ رسم هذا المشهد الفظيع، المريع، المخيف، المرعب، المرهب، قبل 22 كيلو مترًا من مدينة "المنيا"، فهذا ما لا يمكن قبوله، ولا استساغته، ولا تبريره.

المشهد: مدينة جديدة تُنشأ لشباب الخرِّيجين، أو للفلَّاحين، تصميمها بسيط، بيوت من طابق واحد تنتشر أفقيًّا، تعلوها قباب مُستلهمة من هندسة المعماري "حسن فتحي"؛ المدينة خُطِّطت في قسمين منفصلين..

ـ منفصلان!

ـ نعم.

يفصل بينهما شارع واسع، قسمٌ "مسلم" يتوسَّطه جامع كبير نسبيًّا، وقسمٌ "مسيحي" بُنيت وحداته السَّكنية بديكور يبرز الصَّليب ضخمًا واضحًا على واجهاتها! تتوسَّط هذا القسم كنيسة كبيرة نسبيًّا!

مدينة جديدة ذات تقسيم تمييزي، يُرسخ بصلافة للتَّفريق بين مسلمي "مصر" ومسيحيِّيها كأبشع ما يكون التَّفريق!

يضرب فرد الحمام بجناحيه، يهدل محتدًّا كأشدّ ما يكون الاحتداد، عاصفة غبار رملي تتصاعد من النَّاحية الغربيَّة، منحنيات الطَّريق تقسو كالتواءات أفعى في حالة افتراس.

"خليني جنبك خليني، وسيبني أحلم".

رغم كل الأمور الطَّارئة ظلَّت السَّيارة تقطع الطَّريق بثقة. 

 

 

 


قل: تعبيد. ولا تقل: تعليم 

سأكذب لو قلت: أحببتُ المدرسة، أو عشقتُ الدِّراسة، أو مثَّل لي أي مدرِّس، ممَّن درَّسوا لي، أبًا روحيًّا أو مثلًا أعلى.

سأقول الحقيقة دون مُداراة للذَّوق الاجتماعي أو مراعاة للواقع النَّمطي: لقد كرهتُ المدرسة، ونفرتُ من الدِّراسة، ولم أحب أيًّا من المدرِّسين أو المدرِّسات الَّذين تناوبي على تعذيبي.... أقصد تعليمي!

لم أرغب يومًا في أن أكون مهندسًا أو طبيبًا، بالتَّالي لم أكن مضطرًّا للانتباه إلى شرح المدرِّسين في الفصل، عندما دفع بي أبي إلى أحد المدرِّسين الخصوصيِّين لم أكن أذهب إليه، بل أخرج من البيت إلى كورنيش "النِّيل"، أو إلى حديقة "أبو الحجَّاج"، أو إلى "السِّينما"، في آخر الشَّهر آخذ أجرة الدَّرس الخصوصي من والدي وأنطلق إلى أحد مطاعم المشويَّات، أطلب فرخة مشويَّة كاملة بالعيش والسَّلاطة.

شهريَّة أخرى اشتريت بها إسورة وعقدا زيَّنتُ بهما معصم وجِيد البنت "ابتسام" التي همتُ بها غرامًا في السَّنة الأخيرة من الثَّانوية العامَّة.

كانت المدرسة أشبه بالمعتقل، يدخله التِّلميذ فلا يتمكَّن من مغادرته إلَّا بعد أخذ موافقة القائمين على اعتقاله، في الدَّاخل ليس هناك غير التَّعذيب البدني والمعنوي، حيث عقاب من لا يستطيع الإجابة على الأسئلة، أو من لم يؤدِّ الواجب المدرسي، ضربًا بحدِّ المساطر الخشبيَّة على عظام اليد في برد الشِّتاء، وبالصَّفع على الوجوه الفقيرة التي شقَّق الصَّقيع جلد بشرتها، هذا غير الجلوس لساعات طويلة في حصص مملَّة لسماع ما لا أحبُّه ولا أفهمه.

أرواح المدرِّسين على أبعد مسافة من سموِّ روح المعلِّم، في أقرب نقطة من أرواح صولات وضبَّاط جيش عسكري، يعشقون الشَّخط والنَّطر، إلقاء الأوامر، إذلال المرء ليكون جيِّد الطَّاعة، منفِّذا للتَّعليمات دون تفكير، متهيِّئا لبلع التَّكدير والإهانة راضيًا، مستعينين في ذلك بتكرار مقولات برَّاقة مثل هذا البيت الشِّعري الشَّهير: "قف للمعلم وفِّه التبجيلا. كاد المعلِّم أن يكون رسولا". أو هذا القول المأثور: "من علَّمني حرفًا صرت له عبدًا". إنَّه ليس تعليمًا للأرواح بقدر ما هو تعبيد لها!

حلمي الكبير أن أكون فيلسوفًا، أو أديبًا، الكتب التي أتمكَّن من قراءتها في مكتبة المدرسة تصوُّر لي الفيلسوف، أو الأديب، رجلًا مفكِّرا يجلس تحت أشجار الفيافي، أو في سهول المروج، أو على شطآن البحار، يمشي الهوينى خلف قطيع من الخرفان في صحراء لا نهائية، أو يجلس وحيدًا متأملًا بين ثنيَّات الجبال؛ لم تقل هذه الكتب إنَّ الفلاسفة دخلوا المدارس في طفولتهم، بل انطلقوا نحو ممارسة حرِّيتهم بجموح، شربوا الفلسفة من العالم حولهم، ومن معلِّمين لم يكونوا غير أناس بسطاء همُّهم هدم الأسوار التي تأسر العقول، لا هدم كرامة التلميذ ليكون فيما بعد مواطنًا رخوًا طيِّعا يسهل حكمه بالفساد والطُّغيان!

الفلاسفة يقودون الإنسانيَّة بالفكر، ويظلُّون نجومًا لامعة لا تخبو أبدًا لآلاف السِّنين.

الفلاسفة أناسٌ ضد الفناء، أصحاب خلود.

تكلَّمت الكتب عن عباقرة غيَّروا التَّاريخ دون أن يدخلوا مدرسة، بل صارت اكتشافاتهم، وإنجازاتهم، مواضيع بارزة داخل المناهج التعليميَّة! رأيت في "العقَّاد" أبًا روحيًّا ومثلًا أعلى، فهو الأديب الفيلسوف الذي علَّم نفسه بنفسه، تفلسف وكتب الرَّوائع ليصير محل دراسات لا تنقطع، تُعدُّ فيه الأطروحات الأكاديميَّة المؤهِّلة لدرجات الماجستير والدُّكتوراة في مختلف الجامعات المصريَّة والعربيَّة، والأوروبيَّة أحيانًا!

وحتَّى أحقِّق، كتلميذ، معادلة متوازنة توائم بين رغبة أبي وأمي في أن أصبح طبيبًا يمتلك سيَّارة فيات 128بيضاء مثل تلك التي يمتلكها الدُّكتور "جمال أبو زيد"، كان أشهر طبيب في "الأقصر"، ورغبتي في التَّحليق حرًّا كفيلسوف، أجدت القفز من فوق أسوار المدرسة، أدخلها بناء على رغبتهما وأهرب منها تحقيقًا لرغبتي! وإذا شدَّدت جهات الحصار المدرسي إجراءاتها الأمنيَّة في يوم ما أجدني مضطرًّا للهروب داخل المكان، فألجأ إلى قراءة كتبي المفضَّلة تحت "التَّختة"، لأطير إلى وديان بعيدة عن واقع الفصل الدِّراسي الكئيب!

كتب كثيرة مزَّقها المدرِّسون، والمدرِّسات، عندما ضبطوني متلبسًا بقراءتها خُلسة.

المدرسة بالنِّسبة لي ماضٍ مر، صارعته وقتها، أستطيع تذكُّر شيء جميل حدث خلال هذا الماضي، حدثٌ مهمٌّ كان له ما بعده؛ ذلك عندما قرأ الأستاذ "أحمد أبو الوفا"، مدرِّس اللغة العربيَّة في الثَّانوية العسكريَّة، وكان مُعلمًا فيلسوفًا غريبًا عن الواقع التَّعليمي المحيط به،  أوَّل قصَّة قصيرة كتبتُها، ليذيِّلها بنصيحة تحضُّني على القراءة للعظماء أمثال "يحيى حقِّي" و"توفيق الحكيم" و"نجيب محفوظ".

و"عبَّاس محمود العقَّاد".

وكان طبيعيًّا، في نهاية  مشوار تعليمي لم أقتنع به يومًا، أن أحصل على شهادة متدنِّية؛ دبلوم فوق متوسِّط من معهد إعداد فنِّيين.

كما كان طبيعيًّا أن أحقِّق حلمي الذي آمنت به؛ كتابة  أعمال أدبيَّة تحمل "فلسفة" تخصُّني، وتصير لي مؤلَّفات محل جدل قِرَائي، ويتموضع بعضها في دراسات إعداد ماجستير ودكتوراة.

وأن أشتري فيات 128 نفس موديل سيَّارة الدُّكتور "جمال أبو زيد"!

خلاصة الكلام: إنَّه كما قيل في الأزمان السَّابقة: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. أقول الآن: ليس بالمدرسة وحدها يصنع الإنسان مجده.

 

 

  

"كافكا" بين نميمة "مكَّاوي" وترنيمة "عبدالمجيد" 

خلال الأسبوعين الأخيرين تمكَّنتُ من تحقيق ما يمكن وصفه، حسب قدراتي القرائيَّة، بالمعجزة؛ إذ استطعت الانتهاء من قراءة ثلاث روايات بالتَّمام والكمال، إحداها رواية "أن تحبّك جيهان"، للرِّوائي المصري "مكَّاوي سعيد"، وهي رواية طويلة للغاية، تزيد عن سبعمائة صفحة، طُبعت حروفها ببنط صغير، تراصَّت فيها جُمل الحوار مترادفة مع السَّرد، ليخرج شكل الصَّفحة "مكبوس" كلامًا، ولتخرج الرِّواية في النِّهاية "مكبوسة" كتابة!

بدأتُها وأنا "أقدِّم رِجل وأخَّر رِجل"، فمنذ تجربة سابقة مع رواية لـ"إبراهيم الكوني"، لها ذات الحجم تقريبًا، عنوانها ملحمي طويل، لا أتذكَّره، تهت داخلها توهة ناقة جرباء في صحراء جرداء لا كلأ فيها ولا ماء، وأنا أخشى الاقتراب من هذه الرِّوايات فائقة الحجم.

حتَّى منتصف الرِّواية، أي عند الصَّفحة الثَّلاثمائة والخمسين،  استمر سرد "النَّميمة" عاصفًا، و"أحمد الضَّوي" و"ريم مطر" و"جيهان العرابي"، الشَّخصيات المحوريَّة داخل الرِّواية، يحكون لنا فصولًا مطوَّلة في تفاصيل علاقاتهم المشتركة، هذا بخلاف كومة تفاصيل أخرى تخصّ علاقاتهم بشخصيَّات ثانويَّة تشتبك مع هذه الثَّلاث شخصيَّات الرَّئيسية، وأنا كقارئ أحاول العثور على  نفسي داخل حكايات "النَّميمة" هذه فلا أتمكَّن من ذلك، فكل ما يجري خارج مشغوليَّاتي، قضايا ليست قضاياي.

أجاد "مكَّاوي سعيد" في رسم هذه الشَّخصيات، حوَّلها من ورقيَّة إلى لحم ودم بإجادة بالغة، حتَّى ليكاد القارئ يراها، يشعر بدفء أجسادها الحاضرة بعنفوان، لكن الموضوع لا يتطوَّر أبدا، فقط ينقِّل الكرة ببراعة بين شخصيَّاته، "المباصاة" دائمًا في وسط الملعب دون محاولة تقدُّم لإحراز هدف، هذا ممل وبلا جدوى.

تركت "ممطوطة" مكَّاوي مقرِّرًا التَّكفير عن قراءتي لشطرها الأوَّل بقراءة رواية ثقيلة لأديب عالمي ثقيل، من الطِّراز الذي يعتبره بعض مثقَّفينا متفوِّقًا عن طُرُز روائيِّينا العرب بمسافات تقدَّر قياساتها بـ"السِّنين الضَّوئية"!

إنَّها رواية "المحاكمة"، للتّشيكي "فرانز كافكا"، مات عنها قبل استكمالها، وبينما يحتضر طلب من صديقه إبادتها، لكن صديقه لم يعمل بالوصيَّة، بل وضع، أو أشرف على وضع، نهاية "على ما قُسِم" لهذه الرِّواية، وقام بنشرها.

ولأن "المحاكمة" من أواخر ما كتبه "كافكا" يمكن اعتبارها "بقلب جامد" ممثِّلة لإحدى النِّقاط الأعلى على تدريج الرَّسم البياني الموضِّح لقدرة "كافكا" الإبداعيَّة، فقد كتبها بعد أن ارتقى ذروة خبرته الخاصَّة في السَّرد القصصي والرِّوائي.

ما أن بلغت منتصف هذه الرِّواية، التي لا يبلغ طولها ثلث طول "أن تحبّك جيهان"، حتَّى تأكَّد لي أنَّ كثيرًا من الاحتفاء النَّقدي الأكاديمي، العربي تحديدًا، بهذه الرِّواية أمر مبالغ فيه، خصوصًا كلامهم الكبير عن الأسئلة الوجوديَّة داخل "المحاكمة" و و و و.. وكل هذه التَّناولات العميقة! بدا لي كثير من كلام النقَّأد هنا من قبيل نشر شوك "القنفذ"، أي إظهار البسيط مركبًّا، والضَّحل عميقًا، والمسالم مفترسًا،  لتصب كلّ هذه الرُّؤى "القنفذيَّة" في خانة قدرة النَّاقد "النَّافذة والنفَّاذة" على تفكيك النَّص واستنطاقه حتى ولو بعكس ما يقوله!

فالرَّاوي العليم بأحوال السَّيد "جوزيف ك"، داخل رواية "المحاكمة"، لم يتفلسف أبدًا، فقط كان يحكي لنا ببساطة شديدة تجربة "ك" القاسية داخل، وحول، دهاليز القضاء، ليجعله "شاهد إثبات" في اتِّهام هذه المؤسَّسة بالفساد، هكذا أجرى "كافكا" أحداث روايته في اتجاه هذا الأمر بوضوح، ثم لا عمق أبعد من هذه الفكرة.

كما أنَّ "كافكا" اعتمد الحوار عامود ارتكاز رئيسيًا لبناء هذه الرِّواية، في حين أنَّ الحوار عامود ارتكاز رئيسي في بنية الكتابة المسرحيَّة، لا الرِّوائية، ومع ذلك كان يمكن النَّظر إلى الأمر من زاوية التَّجريب، وقبوله، لو أنَّ الحوار مثَّل عاملًا إنمائيًّا داخل "المحاكمة". 

أفلتُّ من "أن تحبّك جيهان" فوقعت في "المحاكمة"، والعمر ليس طويلًا حتَّى يمكن الصَّبر على استكمال قراءة أعمال تعكِّر المزاج، فتركت الرِّواية "الذي يسبق كاتبها روائيينا العرب بسنوات ضوئية!" غير آسف عليها، لكن الغضب والحنق كانا قد ملآنني، إذ ليس سهلًا عليَّ ترك كتاب شرعت في قراءته دون استكماله، فشعرت بالأسى، وأنَّني داخل "على دور اكتئاب"، فقلت لنفسي: هذا وقت قراءة الرواية "اللي في بالي". فعنوانها دال على موضوعها الآمن إلَّا إذا كانت هناك خدعة؛ "ترنيمة سلام" للرِّوائي المصري "أحمد عبدالمجيد".

بعد قراءة بضع صفحات من "التَّرنيمة" أيقنت أنَّها ثالثة أثافي خيبتي القرائيَّة خلال الأيَّام الماضية، فقد انكشفت فكرتها "الطَّيبة" مبكِّرًا جدًّا، ثمَّ بالتَّقدم داخل الرِّواية تتطوَّر "الطِّيبة" إلى "سذاجة"، ثمَّ تتحوَّر "السَّذاجة" إلى "عبط"، وكأنَّ "عبدالمجيد" يرى القرَّاء أطفالًا بريئين، أو أناسًا لم يبلغوا طور الإدراك القرائي بعد، لذلك لن يتساءلوا عن أسباب اختيار القطار كمكان للحكي في حين يمكن أن يكون طائرة محلِّقة إلى "فنزويلا"، أو عيادة طبيب شهير متخمة بالزَّبائن الذين ينتظرون الكشف أوقاتًا طويلة فيتمكَّنون من تبادل سماع قصص حياتهم، أو أو أو.. لماذا القطار طالما أنَّ روح السَّفر به لم تكن عاملًا مؤثِّرًا داخل الرِّواية؟! لن يسأل السُّذج عن تحوُّلات "خالد محفوظ" النفسيَّة غير الممهَّد لها بحنكة، لن يسألوا عن ركاكة "دافع" و"تناول" و"مراحل" و"نتيجة" اعتكاف الحرم.

ومع أنَّ "ترنيمة سلام" هي الرِّواية الأسوأ فنيًا، بين الرِّوايات الثلاثة، فقد أفلح موضوعها "التَّنموي بشري" في دفعي لاستمرار قراءتها حتَّى النِّهاية، رغبة في الاستزادة بأكبر قدر من سلام ذاتي يمكِّنني من العودة مرَّة أخرى لـ"مكَّاوي سعيد"، و"فرانز كافكا"، لاستكمال قراءة روايتيهما المملَّتين.

وقد حدث؛ إذ قدَّمت لي "ترنيمة سلام" يد العون كي أعود إلى تجرُّع "أن تحبّك جيهان" حتَّى آخر قطرة، و"بلبعة" المحاكمة حتَّى آخر حبَّة. 

 

   

 

المُشكلة المصريَّة

أنا والآخر، كلانا ننتمي للجنس البشري المتميِّز عن بقيَّة الأجناس التي تشاركه الحياة على الأرض بعدَّة مزايا؛ أهمُّها التَّفكير الحر.

الأجناس الأخرى مُنقادة بأنماط تفكيريَّة ثابتة، لا تختلف ردود أفعال أفرادها بحذاء فعل ما في نفس الظَّرف، فالقططة لا بد من أن تُواري ما تخلَّف عن قضاء حاجتها، في سبيل ذلك تُحرِّك مخالبها الأماميَّة لتزيح التُّراب أو الرَّمل تنثُره فوق فضلاتها، ولو أنَّها قضت حاجتها على الزُّجاج فإنَّها ستحرِّك مخالبها لتقوم بنفس فعل المواراة رغم أنَّه لا تراب هناك أو رمال! تتساوى ردود أفعال كل القططة حيال هذا الأمر، حتَّى يكاد يكون من المستحيل أن يشذَّ أحدها، ولا تفسير لهذا التَّطابق التَّام بين كل أفراد القططة، في هذا التَّصرف، غير أنَّها جميعًا تتبع نمطًا تفكيريًّا محدودًا لا يتطوَّر أبدًا اسمه الغريزة، لذلك كل القططة ليست غير ملايين المستنسخات لقط واحد وانتهى الأمر.

البشر ليسوا كذلك، إذ أضيف لغرائزهم برنامج تفكيريٌّ معقَّد، يسمح لكل فرد من هذا الجنس بأن تختلف ردود أفعاله تجاه فعل ما عن ردود فعل فرد آخر بحذاء نفس الفعل، فهو مثلًا ليس كالقططة إزاء كيفيَّة التَّعامل مع فضلاته، كل فرد من أفراد الجنس البشري يمكنه التَّعامل إزاء فضلاته بأكثر من طريقة تليق بالجماليات الممنوحة له كجنس راق.

إمكانيَّة تعدُّد ردود الأفعال ملكة تؤدِّي إلى التَّطور بين الأجناس، وإلى التَّميز داخل نفس الجنس، ما يعني استحالة أن يكون الآدميون مثل القططة، مليارات النُّسخ لآدميٍّ واحد، بل ستكون هناك نتيجة واحدة طبيعيَّة؛ التَّعارض.

لن نأكل جميعًا نفس الطَّعام بنفس طريقة الطَّهو في نفس الوقت، لن نشرب نفس العصائر بنفس طريقة العصر في نفس الوقت، لن نمارس الجنس بنفس الأداء في نفس الوقت، لن نتكلَّم نفس الكلام في نفس الوقت، كما لن نؤمن بالله جميعًا نفس الإيمان طوال الوقت، لن نتواءم أيديولوجيًّا على الدَّوام، كما إنَّنا لن نتَّفق داخل الوطن الواحد سياسيًّا إلى الإبد، لذلك فإنَّه كما لا يدين أحدُنا الآخرَ بسبب اختلاف طعامه وشرابه وملبسه، فإنَّه لا يجب إدانته لاختلاف عقيدته أو مذهبه أو أيديولوجيَّته؛ وإذا مارست كلُّ طوائف البشر فعل الإدانة فإنَّه لا يجب على المثقَّفين تحديدًا ممارسته، لأنَّهم يمثِّلون طائفةً المفترض أنَّها الأكثر قدرة على الاحتواء، إذ أنَّها قرأت وعرفت وفهمت أنَّ الإنسان يأتي أولًا، وأنَّ الإنسان لا يكون إنسانًا إن لم يكن فكرة متعارضة، كيانًا معبَّأ بالتَّناقض، والتَّناقض ليس عيبًا كما يُشاع، بل هو مَيزة الخلق الكبرى، هو شرارة تشغيل الحياة؛ لا جريان للنَّهر دون وجود واد ينحدر من "علوٍّ" إلى "دنوٍّ"، لا نموٌّ دون دفع من "أسفل" إلى "أعلى"، لا طاقة دون "موجب" و"سالب"، لا جنس يهب جنينًا مبهجًا دون عضو ذكري "بارز" وعضو أنثوي "مجوَّف".

وكما أنَّ المثقَّف نوعان: حقيقيٌّ، ومدَّعٍ. فإنَّ المثقَّف الحقيقي نوعان أيضا: عامل، ومنتسب.

المثقَّف المنتسب للثَّقافة هو المهموم بتحصيلها من بين جنبات الكتب، من خلالها يكوِّن فكرته عن الجمال، عقله ذاكرة صلبة يحتفظ فيها بمئات النَّظريات الفلسفيَّة التي يراها مخلصة لهذه الفكرة، وتتلخَّص رؤيته الثَّقافية في أنَّ الإنسانيَّة تتطوَّر إذا خدم الإنسان فكرة الجمال؛ لا يجد غضاضة في معاداة الإنسان الذي لا يخدم هذه الفكرة، وإن لم يتوقَّف هذا الإنسان عند حد عدم الخدمة لصالح هذه الفكرة، بل تطاول إلى حد رفضها، فإنَّه سيُعاديه درجة الرَّغبة في الخلاص منه، فهذا الإنسان حسب رؤيته مُعوِّق للإنسانيَّة؛ مثل هذا المثقَّف المنتسب لن يجد غضاضة في الدَّعوة إلى إقصاء هذا الإنسان حتَّى القتل، مبرِّره في ذلك الحفاظ على فكرة الجمال!

أمَّا المثقَّف العامل فهو المهموم بتحصيل الثَّقافة من بين جنبات الإنسان، الكتب فقط أدوات إضاءة لهذه الجنبات المُستَغلَقة، أمَّا الإنسان ذاته فهو فكرته الأساسيَّة، لأنَّ وجود الإنسان سبق أفكاره، والفكرة ليست غير قطرة في وعاء الإنسانيَّة، وفكرة الجمال يجب تسخيرها لصالح الإنسان لا العكس؛ هذا المثقَّف العامل بالثَّقافة يمارس الإقصاء أيضا، لكن ليس ضد الإنسان، بل ضد أي منهاج يؤدِّي بعيدًا عن الإنسان، ومستعد للقتل أيضًا، يقتل أيَّ خاطرة يمكن أن تضاد الإنسان، لذلك يتَّسع صدره للجميع، يؤمن باختلافهم، يسعى إلى التَّصحيح بالقبول الحقيقي للآخر، يفهم أنَّ القيمة الواحدة عادة ما يُنظر إليها من اتِّجاهين متضادَّين فيختلف تقديرها، إذ ما يراه المسلم إيمانًا يراه المسيحيُّ كفرًا، والعكس، القتيل شهيدٌ عند أقوام مجرمٌ هالك عند آخرين، الجاسوس رجل وطنيٌّ جدًّا بالنِّسبة لوطنه خائن بالنِّسبة لوطن آخر، وهكذا، أي أن للجميع من يؤيِّدهم درجة التَّقديس، ومن يعارضهم درجة التَّدنيس.

وبلد مثل "مصر"، في هذه الفترة الصَّعبة المشحونة بالتَّوتر لا تحتاج إلى المثقَّف المنتسب للثَّقافة، الذي يبني نظرياته على قراءة الكتب، وإنَّما تحتاج المثقَّف العامل بالثَّقافة، اللصيق بالإنسان، هذا الذي يرى أنَّ المواطن المصريَّ إنسان واحد وإن اختلفت أفكاره، وأنَّ هذا المواطن تحديدًا لا يحتاج غير الاعتراف به كي يمنحك قلبه لتفتِّش فيه عنه.

الاعتراف بالآخر وحقِّه في ممارسة مواطنته هو بداية حل المشكلة المصريَّة الآنيَّة.

 

     

 

أجمل بلد بلدي 

كانت السَّيارة "الليموزين" االتي خصَّصتها إدارة معرض "الشارقة" للكتاب، دورة 2014 المنقضي، لتنقُّلاتي داخل "الإمارات" تجري في شوارع هذه المدينة المنظَّمة متَّجهة بنا، أنا وصديقي النَّاقد "مصطفى عبادة"، الذي فضَّل ترك سيَّارته المخصَّصة له ليسعدني بصحبته، نحو مقر المعرض.

الشَّوارع واسعة جدًّا، نظيفة جدًّا، البنايات شاهقة جدًّا، جميلة جدًّا، واجهات المحلَّات والشَّركات والمكاتب شيك جدًّا، ثمَّ سيَّارات، سيَّارات، سيَّارات، كلّها فارهة جدًّا، لكن الأرصفة حول الطُّرقات تكاد تخلو من النَّاس، وسماء "الشَّارقة"، لا تكاد تخلو من الغربان النَّاعقة بصوت عال جدًّا!

رغم أنَّ كلّ السَّائقين، الذين تبادلوا قيادة هذه السَّيارة،  كانوا سريلانكيِّين أو هنودًا، في إحدى المرَّات كان سوريًّا، إلَّا إنَّه في مرَّة وحيدة كان السَّائق إماراتيًّا! فور تعرُّفه علينا كمصريَّين قال: "مصر" أمّ الدُّنيا، وأمّ العرب والله، بلد التَّاريخ العريق، والنِّيل، والأهرامات، والقلعة.

كانت نبرته صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه، فكان طبيعيًّا أن نبادله الجمال بجمال، والاستحسان باستحسان، فقلت له إنَّ "الإمارات" أيضًا صارت قطرًا عربيًّا مهمًّا جدًّا، وأنَّها تكاد تكون قطعة من "أوروبَّا".

قال: وإيش يساوي هذا بجوار عظمة "مصر"؟

زعق المعلِّق الرِّياضي الإماراتي، الذي صاحب صوته الشَّجي فعاليات مباراة السُّوبر لكرة القدم بين النَّاديين المصريَّين "الأهلي" و"الزمالك"، بنبرة صادقة جدًّا، يتكلم من قلبه، قائلًا إنَّ "مصر" حصن العرب، وإنَّ ثوابتها أربعة لا غير: "الأهلي" و"الزَّمالك" و"الأهرامات" و"النِّيل"، ما عدا ذلك فهو متغيِّر!

لندع الثَّابت والمتغيِّر حسب رؤية أخينا المعلِّق الكروي، ففيه اختلاف، إذ أنَّ كثيرين يرون "الخطيب" هرمًا رابعًا، آخرون يرونه "أم كلثوم"، أو "محمَّد عبد الوهَّاب"، ربما البعض يرى أنَّ الهرم الرَّابع هو "نجيب محفوظ"، هناك طائفة أخرى لا تتخيَّل الهرم الرابع غير أنَّه "فيفي عبده"!  

لنترك ما فيه اختلاف ولنتَّفق على أنَّ الإماراتيِّين يرون "مصر" الدَّولة الأعظم عربيًّا، تاريخًا ومعاصرة.

كانت لي جلسة جميلة مع صديقي المبدع التُّونسي "كمال العيَّادي" على مقهى "زهرة اللوتس" في شارع "العريش"، من شارع "فيصل" في "الجيزة"، دخَّن "المارلبورو"، شرب القهوة، حكى عن بعض الطُّيور القيروانيَّة، قلَّد أصواتها، ثم قال إنَّه سافر إلى معظم بلدان "أوروبا"، بل عاش في "ألمانيا" عشرين عامًا تقريبًا، مع ذلك لم يجد أجمل من "مصر"!

كانت نبرته صادقة جدا، يتكلم من قلبه، ولأنَّ رأسي تصدَّع من طول كلام المغرمين بأوروبَّا، والبلاد الطَّالعة من عباءة أوروبَّا كأمريكا وكندا، حتَّى كدت أقتنع بأنَّنا "في مصر مش عايشيين"، و"يابخت اللي شالوا عزالهم وهاجروا لبلاد برة"، قلت له مندهشًا: إنت بتتكلِّم جد؟! مصر أجمل من أوروبا؟! يا أخي شكلك مسطول! قول كلام غير ده.

أكَّد لي على أنَّه لم يشرب نبيذًا، ولا حتَّى بيرة، وبالتَّالي فهو ليس مسطولًا، ويعي ما يقول، ثمَّ هتف: يا أخي في أوروبا كلّ شيء صح لدرجة تصيبك بالكآبة، فين الخطأ؟ الحياة لا تكون جميلة من غير "صح" و"خطأ"، هذا موجود في مصر مش في أوروبا!

إذًا ليس نعيق الغربان هو الذي ضايقني في "الشَّارقة"، ربما الذي ضايقني هو أن كل شيء صحيح، كما يجب أن يكون، لدرجة تسبِّب الضِّيق والملل!

عندما عدت جلست مع صديقي الرِّوائي "أشرف العشماوي" في "ماريوت القاهرة"، أبديت له اندهاشي من كون "الشَّارقة" مدينة عصريَّة للغاية ومع ذلك عامرة بالغربان! فقال: وإيه يعني! الغربان في "القاهرة" لا يحلو لها غير سماء نادي "الجزيرة"، أرقى حتَّه في "مصر"! ما تشوفهاش في "الجمالية"!

فعلًا، أنا لم أرها في "الجمالية"، ولا في "البساتين"، ولا في "اسطبل عنتر"، ولا في كل هذه الأحياء "البيئة" التي سعدت بالسَّكن فيها لسنين طويلة، لكنِّي لم أر الغربان في مدينة "الغردقة"، وهي مدينة مصريَّة راقية، وإنما نوارس، وطيور بحر، وعصافير أشجار، وأجواء نفسيَّة ساحرة. اكتشفتها مؤخرًا بفضل صديقي الأديب السُّعودي "سلطان الحويطي"، الذي دعاني لقضاء أسبوع فيها برفقته وبعض أصدقائه السُّعوديين، مدينة ذات روح، تملك طابعًا لا يسهل وصفه، لكن يمكن تلخيصه في أنَّه طابع بطعم البهجة، ولأنَّ أهلها يسترزقون من السَّائحين فهم مادِّيون، عيونهم لا ترى السُيَّاح بشرًا يمشون في الشَّوارع، بل صرر أو أكياس أو "كريدي كارت" تتجوَّل هنا وهناك، وعليهم التَّفنن في ابتداع طرق يمكنها فتح هذه الحوافظ الماليَّة ليغرفوا منها أكبر قدر مستطاع، حتَّى دون تقديم أي خدمة في المقابل! تسبَّب هؤلاء أكثر من مرَّة في حرق أعصاب "سلطان الحويطي"، فينشال وينهبد أمامهم، يصرخ فيهم بأنَّ هذا ليس من الأخلاق في شيء، وأنَّه سيشكوهم للمسؤولين، ثمَّ يتَّجه إلى أقرب مقهى، "يبرطم" معترضًا على الوضع الذي وصل إليه مستوى الخدمة السياحيَّة في "مصر"، وأنَّ رحلته القادمة ستكون إلى "ماليزيا"، أو "تركيا"، يدخِّن الشِّيشة، يهدأ، يسافر عائدًا إلى "تبوك"، ثمَّ يهاتفني ليخبرني بموعد رحلته القادمة إلى "مصر"! يقول لي إن روح الإبداع تتلبَّسه في "مصر"، وإنَّها بلد عجيب، تحبُّه بكل ما فيه، قال: يا أخي حتَّى حرامية "مصر" ولاد حلال! وناسها قلوبهم "بيظه"، بعكس النَّاس في دول عربيَّة أخرى زرتها. كانت نبرته صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه!

صديقتي المغربيَّة تمتلك محل عطور ومستلزمات تجميل، لا علاقة لها بالكتابة، حدَّثتني كثيرًا عن محبَّة أهل المغرب، خصوصًا نسائها، لمصر والمصريِّين، وأنَّ المرأة منهن قد تفضِّل المصري لو خيرت بينه وأحد مواطنيها المغاربة للزَّواج بأحدهما!

وذات مرَّة كنت مع صديقي الرِّوائي "هشام الخشن" في محطة مترو "محمَّد نجيب"، في قلب "القاهرة"، "الخشن" جوَّال سِفري، لا ينقضي شهر إلَّا وهو في بلد أوروبِّي أو خليجي أو أمريكي، قال لي: تصدق إن المترو عندنا أنضف من مترو "لندن"؟!

استغربت كلامه، لكن نبرته كانت صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه.

أمَّا صديقتي "زينب عبد الباقي"، شاعرة لبنانيَّة، فإنَّها تحب مصر حدّ الوله والعشق، هذه الدَّرجة من الحب التي تعمي العاشق عن دمامة معشوقه فيراه غزالًا وإن كان قردًا، يتجاوز عن سيِّئاته حد "بلع الزلط" له، ما نتج عنه رفضها الصَّارم لأي إساءة توجَّه لمصر، ولو من مصري! لا لأنَّ "مصر" بالنِّسبة لها بلد التَّاريخ والحضارة و و و، فهي من بلاد "الشَّام" التي لا ينقصها هذا الشَّرف التَّاريخي التَّليد، ولا لأنَّ "مصر" حصن العرب وخط دفاعهم الأوَّل، فكل الخطوط الدِّفاعيَّة قد اخترقت، وإنَّما لسبب لا تجيد هي نفسها شرحه، فقط يمكن التَّعبير عنه بجمل بسيطة من نوعيَّة: "مصر في القلب"، أو "مصر قطعة من روحي".

بينما أطوِّف في شوارع ثلاث مدن إماراتيَّة غاية في الجمال والتَّنظيم، "الشَّارقة" و"دبي" و"عجمان"، ضبطت نفسي متلبِّسة بالاشتياق إلى عشوائيَّات "الطَّوابق" من "فيصل"!

لا عنصريَّة، ولا وطنيَّة، لكن أحاسيس تمور في وجداني، لن أجيد شرحها، تجعلني أدندن مع المغنِّي، بقلب أبيض منفتح، وسعيد، وروح متفائلة طيَّارة بالأمل: أجمل بلد بلدي.

 

 

 

عن قصَّة حب كرديَّة 

في يوم النَّيروز تخلو شوارع وطرقات وبيوت جزيرة بوطان من المارَّة والسُّكان، فجميعهم يخرجون منذ الصَّباح الباكر إلى خضرة الغابات، وزرقة البحر، يتنزَّهون، يمارسون الفرحة العارمة بهذا العيد.

حتَّى الأمير زين الدِّين، ملك الجزيرة، وكلّ من في قصره، يفعلون في هذا اليوم ما يفعله الشَّعب، يخرجون للتَّنزه وتعاطي المرح.

في هذا العام، غير المحدَّد تاريخيًّا، لأنَّ الحكاية مرويَّة شعبيَّة، قرَّرت الأميرتان زين وستي، شقيقتا الأمير زين الدين، التَّنكُّر في هيئة الرِّجال، لأنَّ جمالهما بلغ من الخطورة حد سقوط من يراهما مغشيَّا عليه، في نفس الوقت الذي يقرِّر فيه كل من تاجدين، فارس شاب من رجال القصر، ومَم، ابن كاتب من كتبة القصر، التَّنكر في هيئة النِّساء كي يمكنهما اختراق تجمُّعاتهن والتَّمتع بجمالهن عن قرب، بهذه المفارقة تبدأ الحكاية، وتتصاعد أحداثها لتنشئ قصَّة حب عميقة بين مم وزين تحديدًا، تنتهي بمأساة خلَّدها الرُّواة الشَّعبيون عندما ظلُّوا يروونها في تجمُّعات المناسبات، ناقلين إيَّاها في شتات القبائل الكرديَّة.

كان يمكن لهذه القصَّة أن تبقى مجرَّد مرويَّة شعبيَّة، مثلها مثل ملايين المرويَّات والحكايات والأحاجي التي يتناقلها النَّاس في مختلف البلدان والثَّقافات، لولا أن قيَّض الله لها شاعرًا كرديًّا كبيرًا، قرَّر أن يصنع منها كتابًا شعريًّا ينقل به الأمَّة الكرديَّة من أمَّة لا تمتلك كتابًا شهيرًا إلى أمَّة تضاهي الفرس، والعرب، وكلّ الأمم التي تمتلك كتبًا شهيرة تمثِّل بطاقات هوية لها.

من هو هذا الشَّاعر الفذ؟

إنَّه أحمد خاني، المولود عام 1651، في مدينة بايزيد الواقعة في الشَّمال الشَّرقي من كردستان الشَّمالية، أوَّل ما تلقَّاه من علوم كان في العقيدة الإسلاميَّة، كحفظ القرآن وبعضًا من الأحاديث النَّبوية، والتَّعرف على علم التَّجويد، والاطِّلاع على السِّيرة النَّبوية، ودراسة الصَّرف والنَّحو والمنطق والفقه، عمل والده كاتبًا في ديوان أمير بايزيد، إلَّا أنَّه تُوفِّي مبكِّرًا، ليعيش خاني اليتم في كنف أخيه الأكبر قاسم، الذي استلم منصب أبيه.

يكبر خاني، يبرع في اللغة والشِّعر ليتولَّى نفس المنصب، إلى جانب اشتغاله بالإمامة والتَّدريس في مسجد بايزيد، سافر إلى مصر ليحصل فيها على إجازة للتَّدريس والإفتاء، ومنها ارتحل إلى عدَّة بلاد أخرى، أشهرها الآستانة، عاصمة الدَّولة العثمانيَّة، التي كانت في أوج قوَّتها، واختلف المؤرِّخون في تحديد تاريخ وفاته، ليلجأ بعضهم إلى تحديد هذا التَّاريخ عن طريق علم حساب الحروف، وبالنَّظر في حروف جملة "طار خاني إلى ربِّه"، المكتوبة على شاهد قبره، حدَّدوا توقيت وفاته بين العامين الميلاديين 1706 و1707

قال أحدهم: الفردوسي أحيا الأمَّة الفارسيَّة، وخاني أنقذ الأمَّة الكرديَّة بكتابه هذا من الموت المحتم.

أوَّل اطِّلاعنا كعرب على هذه القصَّة الأسطوريَّة كان في مطلع الخمسينيَّات من القرن العشرين، عندما قام الدُّكتور سعيد رمضان البوطي بترجمة هذه القصَّة إلى العربيَّة بأسلوب قشيب يحرص على استعمال كل ما هو بلاغي في اللغة، كعادة أهل الكتابة أيَّامها.

في 2007 ينتهي جان دوست، وهو أحد الأدباء الأكراد المهمِّين، من ترجمة أخرى لكتاب أحمد خاني تكشف عن نقص كبير في ترجمة البوطي، الذي اهتم بالقصَّة فترجمها سردًا بينما كتبها أحمد خاني شعرًا، كما أنَّ البوطي لم يحفل بأفكار المترجَم فاجتزأ المقدِّمة الطَّويلة ليبتر أبعادًا فلسفيَّة كبيرة، ودعوات أصيلة للتَّأمل، وكأنَّ البوطي لم يكن مهتمًا بغير تسلية القارئ، واستعراض مهاراته اللغوية؛ ولقد قرأت التَّرجمتين كاملتين، ترجمة البوطي وترجمة دوست، لأجد أنَّ الأخيرة خرجت إلى النُّور مهتمَّة بعقل القارئ، فضلًا عن التَّسلية المصاحبة عادة لكل الحكايات الشَّعبية.   

يقول جان دوست في مقدِّمة ترجمته، لافتًا الأنظار إلى نواقص ترجمة البوطي: أهملت المقدِّمة الفلسفيَّة والتَّصوفية والقوميَّة البالغ عدد أبياتها مئتين وخمسة وثمانين بيتًا، تتضمَّن أفكارًا قوميَّة ربما لم ترق للبوقي، وربما لم يكن الرَّقيب الحكومي ليسمح بنشرها؛ كما أهمل ترجمة الأبيات التي تتحدَّث عن زواج الأميرة ستي بموظَّف البلاط تاجدين لما فيها من مشاهد خادشة للحياء! كما تمَّ إهمال مشاهد لقاء العاشقين مِم وزين لما فيها من احتفاء مبالغ فيه بالجسد! كما أنَّ البوطي أهمل فصلًا كاملًا في نهاية القصَّة بيَّن فيه أحمد خاني خلاصة فلسفته ونظرته إلى الكون.

يستدرك جان دوست موضِّحًا دافعه إلى استخراج هذه التَّرجمة الجديدة: إنَّ رائعة مِم وزين ليست قصَّة حب بقدر ما هي كتاب فكر وتأمُّل، لذلك بادرت إلى ترجمة هذا النَّص الكردي الكلاسيكي الشَّرقي الآسر بكل ما فيه، دون أن أجعل نفسي رقيبًا على مؤلِّفه، فما فيه من أفكار وعقائد وطروحات ملك للمؤلِّف فقط.

جاء كتاب "مَم وزين" لأحمد خاني في حوالي 2660 بيتًا شعريًّا، ويعتبر الكتاب المقدَّس للقوميَّة الكرديَّة؛ كما أنَّه، على حدِّ تعبير دوست: "يعتبر الإسهام الكردي الأكثر قوَّة وشهرة في تكوين البنيان الثَّقافي العالمي.

وفي مزايا هذه التَّرجمة كتب المفكِّر السُّوري الرَّاحل هادي العلوي في مقدِّمته لها: لم تحظ مم وزين بترجمة عربيَّة متقنة وكاملة حتَّى ظهور هذه التَّرجمة التي أجراها المريد الكردي جان دوست، نجل الشَّيخ ملا بشير الشَّيخ صالح، وتضمَّنت النَّشرة الجديدة مقدِّمة دراسيَّة للمترجَم، وأرفقت بشروح وافية لغوامض معانيها ورموزها دلَّت على تمكُّنه من الثَّقافة الصُّوفية. وبهذا الظُّهور الناجح تكون الملحمة قد توفَّرت للقارئ العربي مستوفية شروط النَّقل الفنِّي السَّابق بما يجعلها نصًّا عربيًّا مبينًا يُقرأ كما يُقرأ أي نص عربي أصيل. والقارئ العربي في حاجة لقراءة هذه الملحمة بعد أن قرأ الملاحم الأجنبيَّة المترجمة عن لغات أوروبَّا، وهي أقرب إليه منها، لأنَّها داخلة في ثقافته الإسلاميَّة المشتركة، كما في أدب المنطقة الحضاريَّة الواحدة التي تضم الشُّعوب الثَّلاثة الكبرى: الفرس والكرد والعرب.

أمَّا أحمد خاني نفسه فقد قدَّم كتابه تقدمة بديعة، نجتزئ منها هذا المقطع الريَّان، حيث يقول: عسى أن يسأل لي الرَّحمة كلُّ من يسترحم لهما, وعسى أن يدركني أثرٌ من عطفهم وقبسٌ من دعائهم, وعسى أن يقول أناسٌ: رحمه الله، فقد وشى حياتهما بوشي جميل, وغرس قصَّتهما في بستان الخلود، وعسى أن يتلطَّف النَّاقدون لسِفْري هذا في نقدهم, فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال لكنَّه طفلي الغالي، عزيز إلى نفسي, مدلَّل عند قلبي, جميل في عيني. وهو بستان وإن كان قد يُرى بين ثماره ما هو فج غير يانع, غير أنَّها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبِّي. وحسبهما من جهدي ما قدَّمت, وحسبي منها ما أثمرت.

 

 

السَّادة مثقَّفو التَّنوير

لا نهضة لبلادنا في ظلّ وعي متلبِّك داخل رحم مستغلق بالجهل، تحيط به ظُلَم الأميَّة الثَّقافية من كل جانب، الوأد مصيره المحتوم، لا يحلم حتَّى بولادة متعسِّرة!

مهما خطب زعماؤنا، وغنَّى مطربونا، يُمنِّون الشُّعوب العربيَّة بالمستقبل الرَّطيب، تبقى الأغاني الوطنيَّة مجرَّد رقصات يؤدِّيها هؤلاء رغبة في نيل الرِّضا السُّلطاني، وتبقى الثَّعالب الماكرة تحاصر الدَّجاج في حظائر الكلام، ويبقى الدَّجاج غبيًّا، يرحِّب بثعالب تمنِّيهم بالقمح، وتظل تمنِّيهم بالقمح، وتستمر تمنِّيهم بالقمح، فإذا ما قأقأ من طول الجوع استبدل الثَّعالب التَّخويف بالتَّجويع، يتركون الكلام عن القمح ليخيفونه بالذِّئاب، فيلتصق أكثر بالثعالب، فمبدأ الدَّجاج هو: الحياة جوعًا أفضل من قمح يواكبه موت!

ليست الثَّعالب هي مشكلة الدَّجاج الحقيقيَّة، بل وعيه المتلبِّك داخل هذا الرَّحم المستغلق بالجهل، المحاط بالأميَّة، المتبلِّد الفكر درجة أنَّه قد يرى بعينيه مخالب الثَّعالب، وأنيابها، تقتنص أعزَّ رفاقه، تخرب حظائره، مع ذلك يظل يصدِّقها خوفًا من ذئاب قد تعوي بعيدًا، لبعض الوقت، لكنَّها لا تظهر أبدًا!

هل يمكن القيام بعمليَّة إنقاذ وعي آمنة، ومضمونة النَّتائج، في بلادنا؟

تكاد الإجابة تطلّ علينا بوجه بائس: مستحيل.

فعملية إنقاذ الوعي تحتاج إلى عاملين فاعلين على أقلّ تقدير: مثقَّف مُخلِص. وأداة تُخلِص لنشر نتاج هذا المثقَّف.

مثقَّف مُخلِص في انحيازه للإنسان كفرد له كيان مستقل، وخصوصيَّة، وحقوق أدبيَّة وماديَّة يظلّ أداؤها كاملة هو مؤشِّر نجاح النِّظام الذي يحكمه.

وأداة مُخلِصة تنشر نتاج هذا المثقَّف كي يصل إلى أكبر عدد ممكن من الجماهير ليتمكَّنوا من القراءة، واكتشاف ذواتهم، وخصوصيَّاتهم، وما يتبع هذا الاكتشاف من التَّعرُّف على كلّ حقوقهم المعلَّقة برقاب مسؤولي الأنظمة الحاكمة.

هذان العاملان لا يتوفَّران في بلادنا، بل يمكن القول إنَّهما أندر من الزئبق الأحمر!

كشفت أحداث الأربعة أعوام الأخيرة، عواصف الرَّبيع العربي، عن أنَّ المثقَّف العربي ليس سوى كائن عاشق للسُّلطة، لا يحب المساواة، يهوى السِّيادة، يلعب بكلمة "التَّنوير" كما يلعب الحاكم الدِّيكتاتور بكلمة "الشَّعب"، الاثنان لا يؤمنان بكلمتيهما، وإنَّما يستغلَّانها استغلال الأصوليِّين لكلمة "الدِّين"، من أجل الحصول على أكبر قدر من الهيمنة المؤدِّية للبغددة و"النغنغة".

الباحث في حياة بعض هؤلاء المثقَّفون االكبار، من النُّقاد والأدباء تحديدًا، الأحياء منهم والأموات، سيُصاب بحالة هذيان، أو غثيان!

فسيرى أن معظمهم أدَّى أصعب حركات الأكروبات خطورة في سيرك الحكومات، سواء حكومات أوطانهم، أو حكومات غير أوطانهم، بل غامر بعضهم حد اللعب مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي بشحمها ولحمها من أجل مكاسب ليست غير عفن زائل.

يستغل المثقَّف الدَّعي، كلمة "التَّنوير" بأكثر من طريقة ابتزازيَّة؛ فمرَّة يستخدمها فزَّاعة يُخيف بها النِّظام حتَّى يُسبغ عليه بعض مكتسبات عينيَّة أو معنويَّة، فـ"التَّنوير" يمثل أقوى مبيد للنُّظم الاستبداديَّة القائمة على استغفال الشُّعوب؛ ومرَّة يستخدمها لتجميل وجه النِّظام بعد أن يكون، هذا الأخير، قد أسبغ عليه بالفعل بعض المكتسبات! ليعتبر هذا النِّظام تنويريًّا يحارب المتطرِّفين دينيًّا!

في كلا الحالين يبقى "التَّنوير" قميص "عثمان" المرفوع، يُلعب به سياسيًّا لصالح الخاصَّة في علِّيين، وأبعد من أن يعمل المثقَّف مخلصًا لترسيخه بين النَّاس الأسفل سافلين!

وإذا جاد الدِّيك يومًا ببيضة، وظهر مثقَّف حقيقي ينتمي للشَّعب، يهمُّه قلَّة وعيه، مستعد لدفع الثَّمن الباهظ من أجل "تنوير" حقيقي، غير مزيَّف ولا مُستعمَل لأغراض وسخة، فلن يجد الوسيلة التي يمكنها أداء هذه المغامرة الخطرة، فلا إذاعة حقيقيَّة، ولا تليفزيون حقيقي، ولا صحافة حقيقيَّة، ولا دور نشر حقيقيَّة! إنَّما الكل مقيَّد بقيود يحرص على إبقائها محيطة بمعصميه! بل يحرص على أن تكون هذه القيود متينة حتَّى لا يكون الفكاك منها أمرًا سهلًا! فالكل أفراد في قطيع ينتهي قياده بين أصابع يد نظام مستبد، يسوق إعلامه لتهيئة رأي عام معيَّن، وحالة وطنيَّة معيَّنة، غالبًا ما تكون ضد أي نبتة "تنوير"، فتحرص أدوات الإعلام على البقاء آمنة في صحبة القطيع، تنشر ما يرضى عنه السُّلطان كي لا تصطدم مع مؤسَّساته الأمنيَّة، تنشر ما يُرضي الشَّعب الذي يعاني وعيه تلبُّكًا داخل رحم مستغلق بالجهل، تحيط به ظُلَم الأميَّة الثَّقافية من كل جانب، أي تساهم هذه الأدوات في استحكام غباوة هذا الشَّعب أكثر وأكثر!

وكان أحد النَّاشرين قد قال لي غاضبًا: على الكُتَّاب أن يتفهَّموا حقّ النَّاشر في تحرير أعمالهم المقدَّمة له، من حقِّي حذف ما أرى أنَّه لا يضيف للعمل، أو يسيء لذائقة القارئ!

النَّاشر الأوروبِّي أو الأمريكي يفعلها، تضع هيئة تحريره مبضعها في العمل المقدَّم له قبل نشره، لكنَّه ناشر واع، لا يعاني من التلبُّكات المعويَّة الخاصَّة بالتَّابوهات التي لا تزال تمثِّل هاجسًا مرعبًا عند ناشرنا العربي المسكين؛ إنَّ لفظة "صريحة" في رواية أدبيَّة يراها ناشرنا العربي لفظة "مخلَّة بالآداب"! بآداب من؟ آداب الشُّعوب التي شارف وعيها على الموت وأدًا في أرحامها!

النَّاشر الأوروبِّي، أو الأمريكي، يحذف على أساس فنِّي يتعلَّق بعمليَّة الكتابة فقط، لكنَّه لا يذهب إلى حدّ حذف الفكر، الذي هو لبّ العمل التَّنويري.

النَّاشر العربي، بدوره، يتمسَّك بحق الحذف والتَّعديل رافعًا راية "ذائقة القارئ"! شعار آخر يمنح مدَّع آخر نصيبًا من الهيمنة، وقطعة من تورتة الرِّضا السُّلطاني؟!

إنَّنا في موقف صعب للغاية.

 

 

 

أحلى من السُّكر

يسري مرض السُّكري في الأرض سريان النَّار في الهشيم، طوال الوقت يضمّ إلى جعبته آلاف جديدة من البشر تُضاف إلى قائمته المليونيَّة المعذَّبة بنوعيَّة من الألم مقرفة ومحبطة، ألم "الانتباه التَّام على الدَّوام"؛ فهذا "الانتباه التَّام"، وإن كان أفضل من "الموت الزُّؤام"، يبقى أسوأ ما قد يواجه الإنسان في الحياة، إذ عليه العيش كذئب لا يغمض عينيه الاثنين سويًّا، لا بد وأن تبقى إحداهما مستيقظة ومنتبهة، هكذا يُصنَّف المصابون بالسُّكري باعتبارهم طائفة من طوائف العائشين مطاردين في الأرض؛ فإن كان البوليس يطارد المجرمين، والظُّلم يطارد البسطاء، والجَّشع يطارد أصحاب المال، والسَّطوة تطارد أصحاب السُّلطة، فإنَّ الموت نفسه هو ما يطارد مريض السُّكري، يلاحقه بأقوى الشَّهوات الإنسانيَّة على الإطلاق؛ اشتهاء الطَّعام.

بعد فشل الضَّبط الذَّاتي، داخل الجسم، في القيام بمعادلة نسبة السُّكر داخل الدَّم، بسبب انغماس البنكرياس في حالة أنتخة مُضجرة؛ يصبح على المريض بالسُّكري ممارسة هذه المهمَّة الصَّعبة دون إغفال طوال حياته، سيبقى هذا المريض في حالة انتباه دائم، لن يأكل كما يحب، ما يعني أنَّه لن يعيش مستقبلًا كما يحب؛ سيصبح منذ لحظة اكتشافه لهذا المرض وكأنَّه قائد سيَّارة يعاني مقودها خللًا بشعًا، لو مال قليلًا إلى اليمين، أو إلى اليسار، قد تخرج السَّيارة عن السَّيطرة، لتكون النَّتيجة الحتميَّة وقوع حادث مروِّع ينتهي بفقد الحياة، أو ممارستها بصحبة عاهة مستديمة.

حال الانتباه الدَّائم تصيب مريض السُّكري بقلق مزمن، فتصبح الدُّنيا ضيِّقة في وجهه، تصير سبلها الواسعة أحبالًا مشدودة في فراغ، يخطو فوقها قابضًا، إلى النِّهاية، على عصا اتِّزان ثقيلة، يعبر أيَّامه ولياليه بقلب مشحون خوفًا؛ فالمرض مزمن، وعصيٌّ على الباحثين والعلماء، ظهرت أمراض غاية في الخطورة، ظهرت أدويتها، بينما بقي السُّكري دون أدوية ناجعة!

قبل عشر سنوات أصبت بالسُّكري، أكتشفت إصابتي به صدفة، عندما ألحَّ عليَّ صديق، عائد من سفر استغرق شهرين، كي أقوم بإجراء تحليل الدَّم، قال لي: أنت خاسس جدًّا بشكل مش طبيعي.

كنت أنهض من نومي، ليلًا أو قيلولة، أكثر من ست، سبع، مرَّات للذِّهاب إلى المرحاض، أشرب كل ربع ساعة ما يقارب لترًا من الماء، أصنع لنفسي كلّ صباح "كنكة" شاي كبيرة، أحلِّيها بأكثر من عشرين ملعقة سكَّر وأشربها كاملة، وقعت في حبِّ كل الحلويَّات والمُحلَّيات بشكل غير مسبوق، أستيقظ من نومي صباحًا، أو ظهيرة، فلا أستطيع وضع قدميَّ على الأرض، فكعباهما كأنَّهما وتدان حديديَّان يغليان نارًا، الجنس تحوَّل إلى مشكلة كبيرة، بعد أن كانت الممارسة الجنسيَّة نزهة صقر في سماوات مفتوحة، يحلِّق حتَّى دون تحريك أجنحته، صارت معاناة شبيهة بمعاناة حمار يجر عربة حُمِّلت بستِّين طن حديد، إطاراتها "مفسِّيَّة"، محشور أمامها عوائق حديديَّة، يظل المسكين يجر، يحزق، حتَّى يسقط في عرقه "مرقه"، بينما العربة لا تتحرَّك سنتيمترًا واحدًا!

مصيبة سوداء، داهية دقَّت، فأن تعضَّ قلبي أتحمَّل، أن تعضَّ رغيفي أتحمَّل، لكن تعضَّ ذكورتي فهذا ما لا يمكن تحمُّله!

ذهبت لمعمل التَّحاليل بناء على نصيحة صديقي الجزع، أظهرت النَّتائج صدق تخوُّفاته، قياس السًّكر في الدَّم، صائمًا، أربعمائة وستِّين، في حين يجب أن يكون تسعين فقط! أخذت الورقة وذهبت إلى صديقي الطَّبيب الصَّيدلاني، بعد أن نظر فيها زعق: حالًا تخرج من هنا لطبيب باطنة يظبَّط لك السُّكر، أنت في خطر كبير، 460 صايم؟!

خرجت من صيدليَّة صديقي إلى بيتي؛ فعيادة أسد أحبُّ إليَّ من عيادة أحد أطبَّاء هذا الزَّمان، الذين حادوا عن الإنسانيَّة إلى الرَّأسماليّة فأودوا بصحَّة النَّاس إلى إعياء تلو إعياء، وبتاريخ الطِّب المصري العريق إلى حاضر هيِّن رقيع.

كان عليَّ مواجهة هذا المرض السَّالب للحريَّة الشَّخصية بشكل مختلف. 

وقد حدث.

أفادني في المواجهة طبيعتي التي لا تجزع؛ فكل المصائب ليست غير أسئلة تُطرح على أحدنا، والإجابة هي المقياس الذي يحدِّد مدى تطوُّره على التَّدريج الإنساني؛ لذلك، عندما تأكَّدت من إصابتي بالسُّكري، مارست هوايتي المفضَّلة: "ضبط الأعصاب عند حصول الخسارة"، ووطَّنت نفسي على عدم الاستسلام لفكرة المرض، وعدم الذِّهاب إلى أيٍّ من عيادات أطبَّاء الغبرة، الذين إن وقعت في يد النَّبيل منهم عاملك كآلة عليها الالتزام التَّام بمقاييس التَّشغيل، وإن وقعت في يد الخسيس منهم عاملك كحيوان داجن خلقه الله عنيمة له، يحلب أمواله دون اهتمام حقيقيٍّ بصحَّته! ساعدني على هذا الأمر هو أنَّ للسُّكري ميزة مهمَّة للغاية، يراها الكثيرون عيبًا، إنَّه مرض لا يسبِّب آلامًا لحظيَّة مبرِّحة تدفع المُبتلى به دفعًا اضطراريًّا إلى عيادات الإطبَّاء، لذلك فضَّلت التَّعرف عليه جيدًا بالقراءة عنه، ومحاورة المصابين به، فأحد أهم أمثال جدَّاتنا هو: "إسأل مجرَّب ولا تسأل طبيب". 

اشتريت كتابًا عن "السُّكري"، انهمكت في قراءته، كان الطَّبيب، المؤلِّف، رقيقًا ومتفائلًا! تمكَّنت من معرفة معلومات كثيرة عن هذا المرض الدَّاهية، أهمُّها أنَّه الوحيد الذي يمكن للمريض إنشاء علاقة صداقة معه! اندهشت لهذه المعلومة جدًّا، أو بالأحرى اندهشت من كيفيَّة التَّعبير عنها؛ تساءلت عن نوع الصَّداقة الذي يمكن إقامتها مع طرف آخر يخضعني لشروطه وضغوطه! و"السُّكري" لا يضع شروطًا فقط، أو يمارس ضغوطًا فقط، بل يفعل ما هو أسوأ من هذين الفعلين، إنَّه يفرض الوصاية الكاملة كأبشع مُحتل استيطاني، أو حاكم مستبد!

أمَّا الحقيقة التي اكتشفتها بنفسي، على مدى عشر سنوات سكَّري، هي أنَّه كلَّما تعامل المريض مع هذا المرض باعتباره صديقًا أذلَّه أكثر! إذ يخلعه من تلقائيَّة التَّصرف ليلقي به في جبِّ الحركات المحسوبة، أي يحوِّله من إنسان عاديٍّ إلى روبوت؛ يأكل بحساب شديد خشية زيادة السُّعرات الحراريَّة عن المعدَّل المسموح به، يتحرَّك بحساب شديد خشية إصابته بجروح قطعيَّة قد تؤدِّي إلى بتر أعضاء كاملة من جسده، كالقدم أو الأكف أو حتَّى الأصابع، أيضًا عليه الانفعال بحساب شديد! فالانفعال الشَّديد أسوأ ما يمكن أن يفعله هذا المرء المسكين في حق صحَّته؛ أي تتحوَّل معيشة الذي يصادق "السُّكري" إلى حساب في حساب، وقيود في قيود، ليعيش عمره ناسيًا نفسه متذكِّرا المرض، يمارس حياة ميكانيكيَّة أشبه بالموات!

لذلك، منذ أوَّل يوم، قرَّرت ألَّا أصادق "السُّكري" مطلقًا، بل أعاديه، ولا يقتل عدوًّا رزلًا كالسُّكري غير التَّجاهل التَّام، أنساه واهتم بنفسي، بهذا يمكنني انتزاع حياتي من بين براثنه، وقد حققت أوَّل انتصاراتي التكتيكيَّة عليه عندما أصررت على عدم الذِّهاب إلى طبيب الباطنة لضبطه، وضبطه بنفسي، بالشَّكل الذي يروق لي؛ قلَّلت السُّكريات والنَّشويات بشكل تدريجيٍّ، بطيء جدًّا، على مدى خمسة عشر يومًا، لتخبرني القياسات الجديدة بوصوله إلى 130 وأنا شبعان!

فالأكل ليس الخبز فقط، أو الأرز، أو المعجَّنات المُسكَّرة، أو الدُّهونيات، هناك أكلات كثيرة لذيذة يمكن لأحدنا أكلها، وملء البطن بها، دون أي زيادات تُذكر في نسبة سكَّر الدَّم؛ الخضروات جميعها مفيدة، حتَّى البطاطس بطريقة طهي معيَّنة لا تضر، الأسماك كلُّها، اللحوم الحمراء، الدَّجاج، مائدة الطَّعام ما زالت عامرة أمامي، لم تنفد مباهجها.

لكن حتَّى عملية الضَّبط هذه مع الوقت لم ترق لي، لأنَّها تعني بشكل أو بآخر أنَّني أُولي هذا المرض السَّخيف أهمِّية ما، هذا الاهتمام ليس غير دال على استمرارية وجوده داخلي هاجسًا لا ينصرم، بينما أريد محوه تمامًا من ترتيبات حياتي، فقرَّرت إعادة سيرتي الأولى تجاه الغذاء، آخذ راحتي في الطَّعام والشَّراب، آكل ما يعن لي من محشيَّات حادقة، وحلوة، أصناف المكرونة، العصائر، المياه الغازية المحلَّاة بالسُّكر الصِّناعي العادي، الشَّاي، القهوة، مُستدلًّا بنومي غير المتقطِّع ليلًا، بعد تحليق سهل كصقر تام العنفوان في سماوات اللذة الليليَّة، على أنَّ منسوب السُّكر في دمي مضبوط جدًّا.

لم أتناول أدوية طوال الوقت، فقط كلَّما عنَّ لي ابتلعت حبَّة من حبوب "الدوانيل" صباحًا قبل الإفطار، دلَّني عليها بعض رفقاء هذا المرض، وبعض مغليَّات الأعشاب، انطلقت أعيش حياتي بالطُّول والعرض، في أوقات كثيرة كنت أراقب التَّغيرات الطَّارئة على وجهي في المرآة، على وزني، فأجد نحافة غير مُستحبَّة، تجاعيد تعكس عمرًا كبيرًا غير حقيقيًّا، فأعرف أنَّ نسبة "السُّكري" في دمي مرتفعة، فأعاود المناورة بتخفيف السُّكريات والنَّشويات؛ وهلمَّ جرَّا.

تسع سنوات على هذا الوضع قبل اكتشاف أنَّ ثمَّة خسارة فادحة قادمة على الطَّريق! فقد ذهبت إلى طبيب العيون لتفصيل نظَّارة طبِّية، لكن الأجهزة المختصَّة قرَّرت استحالة هذا الأمر لعدم قدرة أجهزة فحص العين على تسجيل قراءات! السَّبب تجمُّع المياه البيضاء في العينين بكثافة تستلزم عمليَّة فوريَّة، بل إنَّ "السُّكري" فعل ما هو أخطر من ذلك، ضرب شبكيَّة العينين برشوحات وترسيبات يستلزم التَّخلُّص منها عملية حقن، يتبعها الليزر؛ كانت نسبة "السُّكري" في دمي، طوال التِّسعة سنوات الماضية، تتراوح بين 350 و600 وأنا لا أدري! عندما أخبرت طبيب العيون، مبديًا اندهاشي من ارتفاع هذه النِّسب، بأنَّ جروحي القطعيَّة سرعان ما تندمل، كما لا أعاني من أيِّ دوخات سكَّرية، وأمتلك قدمين غير سكَّريتين، علَّل الأمر بأن جسدي يتمتَّع بمناعة قويَّة.

الحقيقة أنَّ روحي، لا جسدي، هي ما يتمتَّع بهذه المناعة، صمدت تسع سنين متواصلة إزاء نسب سكَّرية مرتفعة حد القتل، لأمارس حياتي كرجل معافى؛ لكن الطَّبيب، الذي أجرى عمليتي المياه البيضاء، طالبني بضرورة ألَّا يرتفع منسوب السُّكر، بعد إتمام العمليَّة، عن 200 بأي حال من الأحوال، لأن الارتفاع إلى أبعد من ذلك سيؤثِّر بشدَّة على العدستين المزروعتين، ما يؤدِّي إلى تلفهما، وشدَّد على ضرورة إجراء عملية حقن شبكيتي العينين.

تسع سنوات من الحياة الكاملة في ظلِّ وجود سكَّري خبيث، دون متابعة طبيب، أو مداومة على علاج، ثمَّ لا تتعدَّى الخسارة عملية في العينين، يعود الإبصار بعدها إلى حالته الطبيعيَّة، لهو انتصار كبير فعلًا.

بعيدًا عن نصائح الإطبَّاء السَّاعين إلى حشد الزَّبائن في عياداتهم على قدم وساق، حتَّى إنَّهم كادوا ينصحون النَّاس بزيارتهم قبل النَّوم وبعده! بعيدًا عن المقولات الانهزاميَّة للمرضى المتشعِّبة في قلوبهم تهيُّبًا من "السُّكري" كسفَّاح تاريخي قديم، هذه المقولات التي تصب في زيادة عبوديَّتهم له، وابتعادهم عن الحياة، ليعيشوا موتى؛ بعيدًا عن هذا وذاك إليك نصيحتي أيُّها المُبتلى بهذا الدَّاء: الإنسان روح وجسد، المرض يصيب الجسد، لكن الرُّوح تصيب المرض، قوِّ روحك يضعف مرضك ويشتد جسدك، واعلم أنَّ أيامًا مملوءة بالحياة أفضل جدًّا من سنين مملوءة بالتَّعاسة؛ كما لا يفوتك النَّظر بعمق إلى أنَّك قد تصل إلى الستِّين، والسَّبعين، والثَّمانين، من عمرك وأنت مريض سكَّري، بينما غيرك قد يموت فجأة بكامل صحَّته وفي عزِّ شبابه! حتَّى إن كنت ستموت في عمر العشرين فغيرك مات وعمره خمس سنين! ثق في أنَّ العمر لا يُقاس بالمتر الطُّولي، بل بالمتر المربَّع، لذلك، وبعد خبرة طويلة نسبيًا مع هذا المرض، لا أقول لك: "صادقه". إيَّاك أن تفعل هذا، فلا يصادق العدو إلَّا أحمق مهين، كما لا أقول لك: "اتَّخذه عدوًّا". ففي العداء الصَّريح خطورة أيضًا، ولكن أقول لك: استخدمه.

نعم، ليعمل "السُّكري" خادمًا لك، هو مؤهَّل لذلك، ليكن مثل كلب يرود القافلة، يتقدَّم لاستطلاع الطَّريق، "السُّكري" مؤشِّر بيان صحِّي جيِّد، لمبة حمراء تنبِّهك إلى استخدامك للطَّعام والشَّراب بطريقة خاطئة قد تدفع جسدك إلى هاوية الأمراض الأشد فتكًا وألمًا.

لا تجزع؛ في ستَّة أيَّام من الأسبوع تناول كلَّ الأطعمة البعيدة عن النَّشويات والسُّكريات والدهون ما شئت دون قلق، ليكن حلوك المفضَّل هو الفواكه، المشروبات الدَّايت، قزقز "لب" كما تحب، التهم الفول السُّوداني، والتِّرمس، بأبشع ما يلتهم "سيِّد قشطة" البطاطا، كلُّ ذلك لن يؤثِّر على منسوب السُّكر في دمك.

في اليوم السَّابع انتقم من إحساس الحرمان، افترس الكرنب والأرز والمعجَّنات افتراسًا احرص على ألَّا يخل بقدرات جسدك المناعيَّة. هذا اليوم مهمُّ جدًّا، فهو يوم التَّنفيس عن أي كبت قد يكون داهمك خلال الأسبوع.

الخلاصة؛ كلمة اسمعها مني و"حطَّها حلقة في ودنك": اجعل السُّكري خادمك تعيش أطول، وأصح، وأجمل.

اسأل مجرَّب!

 

 

 

"ديستوفيسكي" في "درب الأربعين" بحثًا عن "المأوى"! 

لي فترة مبتعد عن الفيسبوك، مبتعد عن التِّليفزيون، مبتعد عن الصَّحافة، متنقِّل بسيَّارتي الفيات الخضراء موديل 1974، التي تعاند حقيقة عمرها البالغ أرذله، وتُصر على الجري بين محافظات الجمهورية برشاقة مدَّعاة، ما بين القاهرة والأقصر وسوهاج، مخترقًا الصَّحراء الشَّرقية مَرَّة، والغربيَّة أخرى، أرى السَّماء في صفائها، الرِّمال في وحدتها، أشجار منثورة في قلب الفيافي كالرُّهبان، الصمت في غاية ضجيجه، القرار في منتهى ارتباكه، أحجار الفراعنة منحوتة بصخب حياة وَلَّت منذ دهور، ثمَّ الرَّاحة بين زروع الحقول الدَّافئة في المستقطع السُّوهاجي من وادي النِّيل المقدَّس.

اختشِ يا خمايسي! داخل على الخمسين من عمرك ولم تقرأ ديستوفيسكي بعد!

طيِّب؛ الخمسون سنّ مشينة، سنّ الرَّغبة المحمومة في سرد الاعترافات، ما الذي يضيرني لو قلت إنَّني، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حاولت قراءة "الجريمة والعقاب"، وكانت صدرت طبعة منها، على ما أتذكر، في سلسلة الأدب العالمي للنَّاشئين، وقتها لم أكن دخلت عشرينيَّات عمري، سنَّ التَّمرُّدات و"الاشتغالات"، لذلك أُغرمت أيَّما غرام بالتَّشويق داخل العمل الذي أقرأه! التَّشويق سيِّد القصَّة! حتَّى أكثر من الفكرة نفسها، فضلًا عن الهدف، أمَّا ما يسمَّى بالتَّراكيب اللغوية والأسلوبيَّة والبناء السَّردي و و و.. من مختلف أصول فنِّيات كتابة القصَّة أو الرِّواية، فقد كان الانتباه إلى أحدها يُعد بالنِّسبة لي ضربًا من ضروب المستحيلات، إذ كيف يمكني الانتباه إلى ما لا أراه أساسًا؟! ولا حتَّى يهمّني رؤيته! لذلك ما أن ارتكب "راسكولينكوف"، بطل رواية "الجريمة والعقاب"، جريمته، وقضي على العجوز المرابية وأختها المسكينة، ودخل في غيبوبة نوم مَرَضي عميق، حتَّى أخذت الرِّواية تبرد، فتركتها إلى غيرها كنحلة تتنقَّل بين الزُّهور تتعقَّب رحيق التَّشويق وفقط.

كان هذا خطأ، لكنَّه الخطأ الذي يلازم هذه الفترة العُمريَّة من حياة أي قارئ، حيث مقتبل العمر، والقلب قوي يبحث عن إثارة؛ أَمَا والمرء على مشارف العمر "الغِتت"، الرّذل، الخمسين سنة المنقضية، النِّصف قرن الفائت، فإنَّه من العيب أن أبقى غير قارئ لديستوفيسكي!

توكَّلت على الله وشرعت أقرأ "الجريمة والعقاب"، لكن في طبعة أصليَّة كاملة ومكتملة، لماذا الإصرار على "الجريمة والعقاب"؟! قد يكون حنين الضَّاربين في الرِّحلة إلى مشارفها الأولى المفعمة بالآمال، وقد يكون مسلكي في القراءة المبنيّ على إتمام الكتاب، حتَّى وإن كانت المسافة الزَّمنية بين شطري القراءة تزيد عن ثلاثين عامًا!

على كلٍّ، لم أنته من العشر صفحات الأُوَل حتَّى اقتنعت بأنَّني أمام أديب فارق، لا يشقّ له غبار، إنَّه لا يكتب، بل ينحت، وفي هذا العمر أمتلك قلبًا أضعف وروحًا أقوى، هذه الرُّوح، بعد أن قرأت ثلث الرِّواية تقريبًا، مؤمنة بأنَّ قلم ديستوفيسكي في "الجريمة والعقاب" لم تَسُقه أنامل الرَّجل، بل شغفه المعلَّق بروحه! ينحت بلا استعجال، يلتقط تفاصيل التَّفاصيل بعدسة مكبِّرة لا تُجهد ملكة التَّخييل لدى قارئه، هكذا يُجري هذا الخالق الرِّوائي عملية خلقه على أبرع ما يكون!

ولأنَّ "الجريمة والعقاب" ليست من روايات التَّشويق بالأساس فمن العيب التَّعامل معها على أنَّها شطيرة "تيك أواي"، تُلتهم في قضمة أو قضمتين، وإنَّما العدل والحق ينحيان بالقارئ منحى التَّعامل معها على أنَّها قطعة أفيون، توضع تحت اللسان وتُستحلب استحلابًا، ببطء وعلى فترات، فمثل هذه الأفيونة سيُسبِّب التهامها دفعة واحدة سطلًا وانبساطًا شديدين قد يدفعان المرء إلى الجنون!

قام بناء هذه الرِّواية على العديد من أحداث الصُّدفة! تغيَّرت مصائر الشَّخصيَّات الرَّئيسة، وحتَّى الثَّانوية منها، بسبب الصُّدف، كانت صدفًا عديدة وبسيطة بدرجة كافية لهدم "أجعصها" رواية، ومع ذلك لم تواجه "الجريمة والعقاب" هذا المصير المؤسف؛ بل العكس، تألَّقت، وها هي، وقد بلغت من العمر أرذله، تمرح بين روايات العصر الحديث بروح راقصة بالية طيَّارة! كيف أمكن لديستوفيسكي أن يدخلنا في مئة ألف حارة متفرِّعة من الشَّارع الرَّئيسي دون أن نشعر بالرَّغبة في لعن "سنسفيل" أمِّه؟! الإجابة بسيطة: كانت لكل حارة حكاية لها علاقة بالشَّارع الرَّئيسي، علاقة حتميَّة وضروريَّة، أو بالأحرى علاقة وثيقة وحقيقيَّة، غير مُدَّعاة.

ما الحكاية إذن؟! لماذا وأنا الذي أمنع نفسي منعًا من الاندياح مع ديستوفيسكي أجدني أدفع نفسي دفعا لاستكمال قراءة رواية "المأوى"؟! إنَّها ليست رواية سيِّئة، وقد بذل أمير حسين مجهودًا كبيرًا في كتابتها، لمسته في كل منطقة من مبناها، مع ذلك فالرِّواية تعاني من ثقل دم و"غلاسة" متناهيين، لأنَّ كاتبها، من وجهة نظري، لم يكتبها بقدر ما صنعها، لم يكن بسيطًا حقيقيًّا، بل كان مُركَّبا مُدَّعيا، لم يدفعه شغف الرُّواة للكتابة بقدر ما كان راغبًا في سرد رواية لإصابة العديد من الأهداف القريبة ورخيصة القيمة في ذات الوقت، في "المأوى" شيء من البوليسيَّة، على شيء من الرُّعب، على شيء من التَّاريخية، ثم لم يستطع أمير حسين الوصول إلى سرّ أسرار توافق المزج بين كل هذه الأشياء، لتنتهي روايته إلى ما وصفتها به من قبل، ثقل الدَّم و"الغلاسة"، ورغبة متناهية في لعن "سنسفيل" أم الهندسة أثناء الكتابة!

اقترب عدد صفحات "الجريمة والعقاب"، في بعض الطَّبعات، من الألف صفحة، مزمزت منها اربعمائة صفحة، في هذه الأربعمائة صفحة لم ينشغل ديستوفيسكي بغير الحالة النفسيَّة لبطله قبل شروعه في تنفيذ جريمة قتل المرابية الشَّمطاء، وحالته النَّفسية بعد تنفيذها، وبواسطة هذا الاهتمام، وبخفَّة أداء إبداعي، وبلطف وظرف سرديَّين، أمكنه رَسم صورة كاملة لمدينة روسيَّة في القرن التَّاسع عشر دون الخروج عن إطار هذه الحالة النَّفسية لراسكولينكوف!

ولأنِّي راغب في مزمزة "الجريمة والعقاب" على مهل، ولأنَّ "غلاسة" المأوى أثارت حفيظتي، قرَّرت قراءة رواية "درب الأربعين"، واخترت هذه الرواية لأن كاتبها، ماجد شيحة، سبق له أن قدَّم للحركة الأدبيَّة رواية "سلفي يكتب الرِّوايات سرًّا"، وقد كشفت هذه الرِّواية عن معدن روائيٍّ حقيقي، يكتب بهدوء، لا يدَّعي، يستعرض الرِّواية استعراضًا طاووسيًّا مبهجًا، ببطء ومكانة! روائي يجب أن استمتع بمتابعته، فقلت أقرأ "درب الأربعين".

قرأتها تامَّة! كتب ديستوفيسكي ألف صفحة عن حدث ليس خطيرًا للحد الذي كانت عليه خطورة غياب أب عن بيته، و"لوصة" أبنائه إزاء هذا الأمر، وتَطوُّع "مصدق" الأبن الأصغر بالارتحال إلى الصَّعيد لتتبُّع آثار الوالد المُغرم بالجِمَال، صاحب الحس الصُّوفي، حدث كهذا ربما لو تعرَّض ديستوفيسكي له بالرِّواية لكتبه في تسعة آلاف صفحة، أو تسعة عشر ألف صفحة، ولبَطَّأ الحكي محاذيًا الحادي، بينما شيحة يحكي بسرعة مقاتلة "رافال" فرنسيَّة! يلهث، ويجري، ويلهث، ويركض، ويلهث. يلهث حتَّى وإن اضطَّره اللهاث للتوقُّف قليلًا عن اللهاث!

عالم الصحراء لن تكتبه سرعة "الرَّافال"، ولكن بطء الجِمَال يفعل ذلك، لن ينقله قرار روائي بالكتابة عنه، يفعل ذلك من عاش الصَّحراء فعضَّته، أو قبَّلته فسحرته؛ كما أنَّه في الوقت الذي لم تتمكَّن عشرات الصُّدف من هدم "الجريمة والعقاب"، بل زادتها تألُّقًا ووهجًا، فإنَّ صدفة واحدة جرت وقائعها قبل مائة صفحة من نهاية "درب الأربعين"، تلك التي سقط فيها "مصدق" داخل حفرة صحراويَّة أنبوبيَّة مجهَّزة بالطَّعام والماء والوثائق! أفلحت في إثارة غيظي درجة أنني في كل صفحة من هذه الصَّفحات المائة لعنت سنسفيل "أم الصُّدف" على "أبو الصُّدف".

المستقطع السُّوهاجي من النِّيل المقدَّس حقيقي جدًّا، يجري كالرِّضاب بين شفتين من حقول خضراء، ببطء وثقة وحلاوة، هذه الجبال البعيدة الرَّاسخة في الأفقين، الشَّرقي والغربي، تباشير الصَّحاري، الحيَّات الماكرة تتلوَّى ببطء وصدق، سيارتي الفيات موديل 1974 سيَّارة حقيقيَّة وصادقة، من غير حقيقيَّتها وصدقها لما أمكنها التَّنقل برشاقة بين محافظات مصر. مغارب القرى تلوح، الزُّروع تتَّكئ إلى بعضها كالدَّجاج، الليل قادم، عبير النَّباتات فوَّاح بالعطر الرُّوحاني.   

لا أعرف!

لكن ربما أعظم الرِّوائيين هم هؤلاء اللامُدَّعون، اللا متكلِّفون أثناء الكتابة.

 

 

 

نقص منسوب الضَّمير

مشهد دراماتيكي نقله المؤرِّخون أمثال المقريزي، وابن إياس، وابن تغري بردي، بلاقطة بصريَّة سوداء كالح لونها تسوء القارئين، يصوِّر ما سمِّي بالمجاعة المستنصريَّة، التي قيل إنَّ حلقاتها المُهلكة تتابعت قبل زوال الخلافة الفاطميَّة بوقت قليل، حيث نقص منسوب مياه النِّيل لبضع سنوات متتالية، قدَّروها سبعًا، فجدبت مصر المحروسة، وضرب القحط اخضرار أراضيها، ولوَّنه برماد احتراق الحياة من فرط اشتعال جنون شمس انفلت عيارها بسبب ذبول النَّهر.

لم يعد هناك زرع أو قلع، وانتفى الحَصَاد والحُصَّاد، فجاع النَّاس جوعة لم يسبقها على طول التَّاريخ المصري  غير المجاعة العزيزيَّة، نسبة إلى عزيز مصر، المذكورة في القرآن، والتَّوراة من قبل.

قالت كتب التَّاريخ إنَّ النَّاس من فرط جوعهم اشتروا الرَّخيص مما يمكن أكله بالنَّفيس الغالي.

إحداهن خَبَزت رغيفًا كلَّفها حُليَّا ثمنها ألف دينار!

ومع انعدام ما يمكن أكله اشترى النَّاس الدَّنيء ممَّا لا يستساغ أكله يتبلَّغون به غصصًا.

أحدهم اشترى كلب شوارع بخمسة دنانير، ذبحه وطبخه والتهمه بصحبة أسرته المفجوعة جوعًا!

وعندما نفدت الأموال، واستحال شراء ما يمكن وما لا يمكن أكله، سلبوا ونهبوا البيوت والدَّكاكين والمحال، حتَّى أتوا عليها وصيَّروها خاوية من كل مُفيد يحفظ الرَّمق.

خوت الدُّنيا من كل مأكول، منهوب أو دنيء أو مقبول، فكمنوا وراء النَّواصي والزَّوايا، وعلى أسطح المنازل، خطفوا العابرين والعابرات والأطفال بقوَّة الجوع وحديد الكلاليب، ذبحوهم وشرَّحوهم وشووا لحومهم ومصمصوا عظامهم.

عبد أسود خطف إحداهن وأخذ يقطِّع من لحمها حيَّة، يشوي ويأكل وهي تصرخ وتستغيث، حتَّى أغاثها البعض بقتل العبد واستنقاذها!

مع الجوع الهاصر انمحت هيبة الحكومة، فلم تسلم القصور الأميريَّة، ولا القاعات السلطانيَّة من الاعتداء.

بغلة الوزير أخذها الجائعون المجانين وأكلوها أمام عينيه!

الخليفة المستنصر "بذات نفسه" جاع بعد أن افتقر لدرجة اضطرته لبيع رخام شواهد قبور أعزائه! ولولا أنَّ إحدى السَّيدات تصدَّقت عليه برغيفين يوميًّا لهلك!

بعد مرور ما يقارب عقد كامل من الزَّمن قرَّر الوزير الهمام مواجهة المجاعة بفعل إيجابي، فرسم خطوط مكيدة وزارية آتت أكلها عاجلًا غير آجل. جمع في قاعة الوزارة بضع سُرَّاق ومجرمين، بعد أن ألبسهم ملابس الأثرياء، جمع معهم التُّجار الكبار أصحاب رؤوس الأموال، ثم خاطب أحد الأغنياء المُزوَّرين بعنف، موجِّها له الإدانة باعتباره تاجرًا جشعًا يحبس القمح في مخازن تجارته فأجاع الأمَّة، وقبل أن يفتح التَّاجر المزوَّر فمه مندهشًا من هذه التُّهمة التي لم يحلم يومًا بارتكابها وهو مجرد سارق "على ما تُفرج" طار رأسه بسيف الجلَّاد فارتاع التُّجار الحقيقيُّون، ليسارعوا بإبداء التأسُّفات، وتقبيل الأرض بين يدي الوزير ندمًا على ما بدر منهم، ووعدوا بأنَّهم توَّا وفورًا سيفرجون عن الأقوات التي في مخازنهم.

وفعلوا. وبدأت الأزمة تنفرج. ثم فاض النِّيل ليعمّ الرَّخاء البلاد و"يتنغنغ" فيه العباد! 

هذا هو التَّاريخ المكتوب بخصوص المجاعة المستنصريَّة، والذي دفع بالمحللين الطَّيبين إلى إدانة النِّيل! فمنسوبه هو الذي انخفض لسبع سنوات متتالية، ولولا عملته السَّوداء ما حدثت المجاعة، ولا جرت أحداث قصص الرُّعب "الأوفر" الواردة أعلاه، والتي هي أعجب من أي عجائبيَّة، وأغرب من أي غرائبيَّة، ومع ذلك صدَّقها المصريون، جاهلهم وعالمهم، لأكثر من ألف سنة، وما زالوا، رغم أنَّ كل ما ورد فيها من "هَطَل" يُفنَّد بقليل عقلانيَّة.

دعونا من تحليلات الطَّيبين، ولنسأل هذا السُّؤال: كم مرَّة "استندل" النِّيل وخسّ منسوبه لسبع سنين متتالية على مدى تاريخ جريانه الضَّارب في القدم؟

لا شك أنَّها مرَّات عديدة.

وصلنا ذكر ثلات مرَّات منها فقط: المجاعة العزيزيَّة الفرعونيَّة، التي حملت الكتب المقدَّسة أخبارًا مقتضبة عنها، ولم تشر إليها أيّ من كتب التَّاريخ القديم. ثمّ المجاعتان الحاكميَّة والمستنصريَّة، وقد وصلتنا أخبارهما عبر صياغات المؤرِّخين من البشر الفانين، لأنَّ الخطاب الإلهي المباشر اُختتم بالقرآن الكريم.

سنغض الطَّرف عن بعض المجاعات الخفيفة التي تبعثر ذكرها في كتب متفرِّقة هنا وهناك.

القصّ المقدَّس عن المجاعة الأولى جاء متعقِّلًا جدًّا، حيث تكلَّم عن رؤية مناميَّة لعزيز مصر فسَّرها النَّبي يوسف مستشرفًا المستقبل ليبادر المجاعة قبل وقوعها بتخزين قمح يكفي لإطعام الشَّعب سبع سنين.

ومرَّ الأمر سلامات.

بعكس قص البشر الفانين، أصحاب الضَّمائر السُّوداء، إنَّهم لم يحرصوا على تمرير ذكر المجاعات سلامات! لأنَّ الكتابة، حتَّى وإن كانت تأريخًا يجب أن يكون محايدًا علميًّا، مضروبة بعطن الهوى الإنساني، وقد كان "الحاكم بأمر الله" خليفة فاطميًّا مثيرًا للجدل، أحبَّه أناس درجة التَّأليه، وكرهه آخرون درجة الشَّيطنة.

كما أنَّ الخليفة "المستنصر" "خلَّل" في السَّلطنة لأكثر من خمسين عامًا، ركود نشأ عنه تيَّاران متضادَّان، حبيب وعدو، والسُّنة بالفطرة ضد الشِّيعة، والشِّيعة بالفطرة ضد السُّنة، والمؤرِّخون تابعوا القوَّة الكرديَّة الأيوبيَّة الصَّاعدة، سنِّيون يكتبون عن مجاعة في زمن خليفة شيعي! ومصر منذ خمسة عشر قرنًا من الزِّمان سنِّية المذهب.

لن يمرِّرها المؤرِّخون السُّنيون سلامات قطعًا. 

وهكذا سيُكتب التَّاريخ عن الخليفة الإخواني "محمَّد مرسي"!

واعلم أن ليس الهوى هو الآفة الوحيدة التي ضربت بسوسها في عمليَّة التَّأريخ. التهويل والمبالغة فعلا ذلك أيضًا، إنَّهما منبتا الأسطورة، وكل شعب بدائي الوعي عاشق بالضَّرورة للأسطورة، ومصر العريقة بدائيَّة الوعي في عصورها الوسطى التي لا تنتهي!

تأمَّل الأسطورة القائلة بأنَّ الأسطول البحري المصري في عصر الخليفة العسكريّ عبد الفتاح السِّيسي قد تمكَّن من مهاجمة الأسطول السَّادس الأمريكي في البحر المتوسِّط وأسر قائده.

لقد تقبَّل الوعي الشَّعبي المصري هذه التَّهريجة المكشوفة على إنَّها حقيقة لا تقبل التَّشكيك! وغير مستبعد أن تجد هذه الطُّرفة طريقها إلى كتاب تاريخ مستقبلي باعتبارها حقيقة جادَّة راسخة!

الميل السِّياسي دوره "أغبر" أثناء عملية التَّأريخ في ظل وجود مؤرِّخين يمالئون الحكَّام مرَّة، أو يعادونهم مرَّة، مجاراة لانتماءاتهم السياسيَّة، أومصالحهم الشَّخصية، أو حتَّى مخاوفهم الأمنيَّة.

وتبعًا لما ورد سابقًا غير مستبعد أبدًا عن مؤرِّخ مُحتمل، إخواني الهوى، تصادف له أن رأى امرأة فقيرة، سقطت من حسابات الجيران والأغنياء، تبحث عن طعامها في صندوق قمامة، وسمع صيحات البعض على إحدى الفضائيَّات الإخباريَّة وهم يصرخون: "إحنا مش لاقيين ناكل". "الشعب بياكل تراب". "مش قادر اشتري نص كيلو لحمة للعيال اللي جالهم أنيميا". أن يكتب التَّاريخ الآتي: وضرب الجوع مصر في فترة حكم طاغية عسكري اسمه السِّيسي، كان أمير الجيوش عندما انقلب على خليفة المسلمين واستولى على عرشه، فضنَّ لحم الضَّأن، وغار لحم الجاموس والأبقار، وفشي داء يُقال له الأنيميا ُيهلك الأقوياء قبل الضُّعفاء، والشَّباب قبل الشُّيوخ، والرِّجال قبل النِّساء، فلمَّا نفد كلُّ مأكول، حتَّى الخس والجرجير والعاقول، اضطر أهل مصر لمشاركة الحيوانات صناديق القمامة، والتهموا كلَّ ما فيها، فعضَّت الكلاب النَّاس، وأكل النَّاس الكلاب، واختفت الدَّواب، حتَّى الحشرات أكلوها، ولمَّا لم يجدوا ما يحدّ من غائلة جوعهم من كائنات حيَّة، أو ميتة، سفُّوا التُّراب سفًّا، وقيل إنَّ أحدهم دفع في حفنة تراب خمسين دولارًا أمريكيًّا.

وهكذا تضاف إلى التَّاريخ المصري مجاعة جديدة تُعرف بالمجاعة السِّيساوية!

لننظر إلى كلِّ ما حولنا قبل أن يصير تاريخًا، هل رأينا قائد الأسطول البحري السَّادس الأمريكي أسيرًا لدى الجيش المصري؟! هل عايشنا هذه المجاعة الدُّراماتيكية المصوَّرة بلاقطة سوداء كالح لونها تسوء القارئين؟

ليس نقصان منسوب النِّيل وحده هو السَّبب في "أفورة" هذه المجاعات المريعة التي نقرأ عنها تأريخًا، ولا حتَّى نقصان منسوب القناعة والأمانة عند أصحاب رؤوس الأموال، وإنَّما أيضًا نقصان منسوب الضَّمير عند المؤرِّخين إيَّاهم.



 

السِّت "غالية"

لا أعيش حياتي غارقًا في الكتب أو جليس مقاهٍ كما يجدر بروائيّ؛ بل أعيشها ربّ أسرة، رجلًا بيتيًّا يستمتع بعائلته الصَّغيرة، يتابع أحوال عائلته الكبيرة، يجلس في ردهة الشَّقة بجوار زوجته أمام التِّليفزيون، يتابع معها برامج وقنوات المطبخ مُضمرًا السُّخرية من سذاجتها، ثم رويدًا رويدًا يجد في هذه البرامج ما يجذبه لمتابعتها باهتمام لا يقل، إن لم يزد، عن اهتمام زوجته المصون!

يبدو الشِّيف شربيني رجلًا طيِّبًا، ملامحه غارقة في المصريِّة، طريقة إعداده للأطعمة تشي بأنَّه لم يكن أكثر من طباخ أفراح لعب زهره فتغير حاله ليصبح أشهر شيف في أشهر فضائيَّة مختصَّة بأمور الطَّبيخ! وبينما زوجتي تهتم بتسجيل مكوِّنات الطَّبخة وطريقة إعدادها أكون مهتمًّا بتكوين صورة بانوراميَّة لكل ما تعكسه الشَّاشة، ألاحظ التَّوافقات والمتناقضات، فأجد أنَّ الطَّبخات الغريبة عن واقعنا المصري البسيط تتوافق مع ديكور المطبخ المجهَّز بالأدوات المتقدِّمة تقنيًا، عير المتاحة لعموم البيوت المصريَّة، في هذا الزَّخم الغربي ديكورًا وطبيخًا يتنقَّل شربيني مصري شرقي حتَّى النُّخاع، يكلِّمنا بلكنة ابن بلد من حواري السيِّدة زينب واصفًا تراكيب خليط من أطعمة فرنسيَّة أو إيطاليَّة أو أمريكيَّة، أو حتَّى يابانيَّة! 

الشِّيف حسن يبدو أكثر نباهة، ملامحه قوقازيِّة، يُعد الطَّعام بشكل أكثر حرفيَّة، يصلح شيفًا حقيقيًّا لمطابخ فنادق راقية، متناسق مع أجواء مطبخه الأنيق غربي الدِّيكور والأطعمة أيضًا، ومع ذلك يُصر على أن يضع بنفسه ما يخل بهذا التَّناسق، عندما يردِّد مباهيًا: "يا تكَّاتَك يا حركاتك"! إنَّه تعبير شعبي يجوز لإحدى سيِّدات إسطبل عنتر الهتاف به  وهي تستنشق أبخرة طشِّة الملوخيَّة الممزوجة بأبخرة ماء مجاري يحيط بأثاث غرفتها، لكنَّه لا يليق مطلقًا بشيف قوقازي الملامح يتحرَّك بين أدوات طبخ أوروربيَّة ليعد أطعمة غربيَّة!

أيَّام دراستي المعهديَّة، في النِّصف الثَّاني من الثَّمانينيَّات، سكنتُ غرفة حقيرة على سطح بيت رديء في حي البساتين القاهري؛ السَّطح عال، كلَّما نظرت إلى أسطح البيوت دوني أرى النِّساء يقمن بتقطيع أكوام روث طازج لخيول وبغال عربات الكارو التي يسترزق بها أزواجهن، يشكِّلونها قوالب "جِلَّة"، يلصقونها بالجدران، حتَّى إذا جفَّت استُعملت كمصدر مهم من مصادر الطَّاقة اللازمة لإشعال النِّيران في أفران الخبيز الخاصَّة ببيوتهن، في هذه الأفران كن يطبخن أصنافًا من الطَّعام لن يكون لها مذاقها المميَّز لو لم يتم طهيها بنار "الجِلَّة" تحديدًا.

"الجِلَّة" مخلَّفات كائن حي، بينما "البوتوجاز" غاز تكوَّن من تعفُّن رمم كائنات ماتت قبل عشرات الآلاف من السِّنين.

فرق كبير بين طعم ما طُهي بنيران ناتجة عن طاقة حيَّة وآخر طُهي بنار ناتجة عن طاقة ميتة!

قبل عقدين لم تكن قُرانا الجنوبيَّة تعرف طبيخ البوتاجاز، بل طبيخ الجِلَّة وبوص الذُّرة وحطب القطن، حيث ركن كبير من البيت يحتوي على أكثر من كانون، تجتمع فيه كل نسوة العائلة، المرأة الكبيرة وحريم عيالها، يطبخن وهنَّ يلُكن سيرة النَّاس في الجوار، يتَّخذن منها العبر، ويتصبَّرن بمصائبها، ويفرحن لأفراحها؛ عندما دخل البوتاجاز بيوت القرى هُدمت الكوانين، وتفرَّقت نسوة البيت الواحد في أكثر من مطبخ، ولم تعد روائح الطَّبيخ بذات القوَّة والطَّزاجة، فحتَّى وإن كان مُضافًا إلى الأطعمة كل المتبِّلات العصريَّة فقد خلت من المتبِّل الأساسي: ونس الحكايات.

ربما طبيخ السِّت نجلاء على قد الإيد فعلًا، لكنَّها تعاني ممَّا يعاني منه العم شربيني والعم حسن، أقصد التَّناقض المُخل بالمعنى، فالمطبخ متطوِّر جدًّا، وفي الدِّيكور رسمة لباب عتيق لشقَّة كلاسيكيَّة قديمة! كما أنَّ سلوك السِّت نجلاء نفسه ليس عفويًّا كسلوك السِّت غالية، هذه المرأة المصريَّة البسيطة، الطَّيبة الحنون، التي تتكلَّم كيفما اتَّفق، تعبِّر بتلقائيَّة ست بيت بلدي عن سعادتها بحبِّ متابعينها، لا تهتم بوضع خطَّة مفادها "أنا لا أكذب ولكنِّي أتجمَّل"، تتواءم مع مطبخ بسيط جدَّا، موجود فعلًا في أكثر من 95%  من بيوت مصر، تطبخ فيه أكل عموم شعب مصر، تمارس الطَّهي بالمتبِّلات المعروفة، أهمها ونس الحكايات، حيث تستضيف أحدهم لتتكلَّم معه عن القيم والأخلاق بعفويَّة، فيخرج الكلام من القلب للقلب، ليتم طهو الطَّعام على أشهى ما يكون، تكاد روائحه القويَّة الطَّازجة تنفذ من الشَّاشة إلى أنفي.

أتذكَّر أمِّي زمان، وقت كان يمكننا فيه الجلوس على سطح بيتنا دون أن تكشفنا الأسطح المجاورة شاهقة العلو التي انبثقت من الأرض مؤخرًّا، تفرش لنا في شمس الشِّتاء حصيرًا، تُحضِر طبقًا كبيرًا، مقدار كف من مسحوق أوراق الملوخيَّة "النَّاشفة"، كوب ماء كبير، عددًا من "ضروس" الثُّوم، ليمونتين أو ثلاثة، وبينما تخلط هذه المقادير على البارد، دون نار، تضحك وتقول: الشَّلَوْلَو.. طبيخ السِّت على فرشتها.

مطابخ الشِّيف شريبني والشِّيف حسن والسِّت نجلاء، ومن على نهجهم، ليست مصريَّة أصيلة، بل هُجِّنت بأصناف من الطَّعام المستورد، تخاطب مصريِّين يواجهون شتاتًا وجدانيًّا، لا هم أحبُّوا بلدهم فتمثَّلوها ولا هم كرهوها ففارقوها، زغللت مطابخ الخارج أمعاءهم، فأطلقت فيهم روح السَّرف المطبخي، النَّهم، والشَّره.

مطبخ السِّت غالية يربط المصريِّين ببلدهم، يطمئنهم، بل يدفعهم إلى المباهاة بتميُّزهم الخاص بهم دون غيرهم، إذ ليس الأمر طعام يُعَد، بل قيمة وحكاية وحوار محشو في قلب اللقمة، وإنَّ أشهى الطَّعام ما تُبِّل بونس الحكايات.

دخلت أفران البوتاجاز بيوت البساتين فتوقَّفت النِّساء عن صنع أقراص الجِلَّة للوقود، فتُرِكت فضلات الأحصنة والبغال، التي ما زالت تجر عربات الكَّارو، في الشِّوارع ومقالب الزِّبالة تشيع الذُّباب والرَّوائح الكريهة. في القرى الشماليَّة اضطر الفلَّاحون لحرق قش الأرز بعد أن كان وقودًا سائغًا لأفرانهم وكوانينهم، فانطلقت السُّحابات السَّوداء تقض راحة القاهرة سنين عددا؛ وها هم فلَّاحو الصَّعيد يشرعون في حرق أكوام ضخمة من البوص في حقولهم، يتخلَّصون منها بعد أن كانت تُخزَّن بمنتهى الاهتمام كمصدر طاقة لا يمكن الاستغناء عنه.

الشَّاشات تهدم ببطء ومثابرة تلك الفروق الأصيلة المُميِّزة للقرى عن المدن، ولمصر عن سائر الأمصار.

 

 

 

"أرض الإله" في مهمَّة مستحيلة لدفع الازدراء عن التَّاريخ المصري! 

كنت أطالع، في غير اندهاش، الكثير من ردود أفعال القرَّاء حول الموضوع التَّاريخي الذي اعتمدته رواية "أرض الإله"، للكاتب المصري أحمد مراد؛ تلك الرُّدود التي عبَّرت عن انزعاج أصحابها ممَّا اعتبروه تغييرًا في حقائق تاريخيَّة سيؤدِّي إلى ما لا يُحمد عقباه مستقبلًا، وقد شيَّدوا تخوُّفاتهم على أسس من رؤى تعتبر الرِّواية، كصنف أدبي، أحد أغزر منابع المعرفة في هذا العصر!

لم أندهش، إذ كيف أندهش وأنا أعيش في زمن الغرائب، والعجائب، والأفهام المغلوطة، كما لم أعش زمنًا من قبل؟ حتَّى صار العاديُّ، لا الغريب، هو مبعث الإدهاش! فبعض الآراء، التي انضمَّت إلى قافلة الاعتراض على تفكيك التَّاريخ بالتَّناول الرِّوائي وإعادة بنائه حسب تصوُّر الكاتب، كانت لروائيِّين أيضًا! وكأنَّ هؤلاء لم يفهموا يومًا أنَّ شريط الحمض النَّووي للجنس الرِّوائي لم يختلف عن مثله في الأجناس الكتابيَّة المعرفيَّة الأخرى إلَّا بتوافر عدد كبير من الجينات الخاصَّة بالقدرة على التَّفكيك داخله، واستعمال الخيال إلى أقصى مدى في إعادة البناء، بشكل مغاير عمَّا عرفه الواقع، للمساعدة بقوَّة على فهم الواقع.

إنَّ منطق الرُّؤى، والأحلام، لا يخضع لشروط الصَّحو واليقظة، لهذا السَّبب يصبح من السَّذاجة البلهاء محاكمة المنامات، بالضَّبط كما لو أنَّنا اتَّهمنا عملًا أدبيًّا بالعبث في التَّاريخ، أو حتَّى في العقائد.

عجيبة العجائب، إنَّه في الوقت الذي دحض العقلاء عن رواية "أرض الإله" ما نُسب إليها من عبث في التَّاريخ، أصرَّ كاتبها، الذي طالب قرَّاءه من قبل بالتَّعامل مع روايته أدبيًّا، لا تاريخيًّا، على التَّصريح بكلام كبير، وضخم، وفخم، من قبيل: "أرض الإله" تدفع الازدراء عن التَّاريخ المصري. وما شابه من تصريحات، مثل اعتبار لفظة "فرعون" اسم علم، لا لقب للحاكم المصري، لأنَّ فرعون جاء رمزًا للاستبداد والطُّغيان في الكتب المقدَّسة؛ وهي تصريحات لا أعرف إن كان مراد يدرك إلى أىِّ مدى تضعه في وجه مدفع الحقيقة التَّاريخية، لا الخيال الأدبيِّ، أم لا؟! وكيف أنَّ تصريحاته تلك تُجبر روايته على الرُّضوخ للمقاييس العلمية الخاصَّة بالشَّأن التَّاريخي رغم أنفها.

هنا يصبح من حقِّ المطَّلع على هذه التَّصريحات، لا الرِّواية، التَّساؤل عمَّن حشا عقل مراد بفكرة أنَّ التَّاريخ المصري القديم، الذي يقف أمامه العالم إجلالًا، يعاني من ازدراء ما؟! ومن أدخل في ذهنه أنَّ تعدُّد الآلهة، في الزَّمن القديم، يضع التَّاريخ المصري في خانة الازدراء ليحاول إظهار كهنة المعابد المصريَّة، داخل روايته، كرجال دين يوحِّدون الله التَّوحيد الذي نعرفه اليوم؟ هل تعدُّد الآلهة في حضارة اليونان، والرُّومان، وآشور، تسبَّب في ازدرائها يومًا ما؟!

ثمَّ؛ معلوم أنَّ ما ورد من أفكار في "أرض الإله" ليست وليدة تأمُّلات كاتبها الشَّخصية في التَّاريخ، وإنَّما قرأها في كتب ما، سطرها باحثون ما، وأُعجِب بها فقرَّر اقتباسها وطرحها داخل رواية؛ ولأنَّ هذه الأفكار مغايرة للرَّاسخ في أذهان النَّاس، ليست ملكه، كان عليه الإشارة بوضوح للكتب التي أوردت هذه الأفكار، حتَّى لا يستحوز حقًّا فكريًّا ليس له؛ كان لهذا الأمر أولويَّة تفوق الإشارة إلى اسم مصمِّمة ملابس موديل الغلاف، واسم موديل الغلاف، و و "في الصَّفحة الأخيرة"، ما أضفى على القارئ إحساسًا بأنَّه إزاء فيلم، له تتر، لا رواية رصينة!

لندع كل هذه الملحوظات السَّابقة جانبًا ولنتكلَّم عن هذه الرِّواية قليلًا كبناء أدبيٍّ؛ لكن قبل محاولة وزنها لتقدير قيمتها الأدبيَّة في سوق الأدب علينا الانتباه إلى تلك الحقيقة القائلة بأنَّه من المعيب كتابة ثلاثة سطور عن موضوع يمكن كتابته في سطر واحد.

هذا مهمٌّ جدًّا.

إن كنتَ قرأت "أرض الإله" حتَّى نهايتها فضعها بين يديك، قلِّبها بأناة، تأمَّلها جيِّدًا؛ ماذا تلاحظ؟

أنَّها رواية واحدة، مع ذلك قابلة للتَّفكيك إلى ثلاث روايات؛ الأولى: بطلها هوارد كارتر، مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، وهي أقصرها جميعًا، جاءت غلافًا للرِّوايتين الأُخريين، كمفتتح في أوَّل الكتاب مكوَّن من بضع صفحات، و"فينالة" في آخر الكتاب مكوَّنة من ثلاث صفحات. الرِّواية الثَّانية: بطلها كاي، كاهن معبد سمنُّود، وهي الرِّواية التي يمكن اعتبارها الهيكل العظمي لـ"أرض الإله"، أو العمود الفقري، أو محور الارتكاز، أقصد الرِّواية المُتخيَّلة من بنات أفكار الكاتب، التي تتمتَّع بمساحات واسعة قابلة للتَّنسيق والتَّعمير الرِّوائي كأفضل ما يكون إن استطاع الكاتب القيام بهذا الأمر. أمَّا الرِّواية الثَّالثة فبطلها النَّبي موسى، نبيُّ اليهود الذي حكت الكتب المقدَّسة قصَّته الشَّهيرة.

تبدأ الرِّواية في عصر حديث نسبيًّا، أيَّام الاحتلال الإنجليزي، حيث يدخل هوارد كارتر مكتب أحد مديري الآثار ثائرًا، يطالبه بإجراء حكوميٍّ لصالحه، مهدِّدًا بأنَّه لو لم يحصل على ما يريد سيكشف للعالم كله ما جاء بالوثائق التي عثر عليها في مقبرة توت عنخ آمون؛ هنا سيشم القارئ رائحة محمود سالم في مغامراته المسلسلة الشَّهيرة بـ"الشَّياطين الـ13". ومن غير داع فنيٍّ ترك مراد، فجأة، حدوتة وزمن كارتر ليعود إلى مئتين وخمسين عامًا قبل الميلاد، وجريمة قتل الكاهن الأعظم لمعبد سمنُّود، لتهبّ على القارئ روائح بارفانات دان براون بقوَّة، حيث جرائم القتل الغامضة داخل الكنائس والمتاحف والأماكن المثيرة للخيال، وبنفس الوصفة الدانبراونية، فالكاهن، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يكتب بدمائه أرقامًا ملغزة، إذا تمَّ حلُّ شفرتها ستؤدِّي إلى حل اللغز الرَّهيب، ثمَّ مطاردات على نمط الأفلام الأمريكيَّة، إذ المتفرِّج يرى الخنجر يخترق قلب البطل وهو يتهاوى في كتلة لهب ناتجة عن انفجار قنبلة نووية، ويحترق أمام عينيه، ومع ذلك يظهر، بعد قليل، في المشاهد التَّالية، ليسند ناطحة سحاب بمنتهى العنفوان ويمنعها من الانهيار!

لن يظل الأمر "دان براونيا" طويلًا، بل سيتحوَّل "عزازيليًّا" ليشم القارئ رائحة يوسف زيدان، وأجواء سكندرية قديمة، وكاي الكاهن مع الجميلة المقهورة، وقصَّة الحب المحرَّمة بنفس التَّناول العتيق إيَّاه، وإضمامات البردي، أو تلك اللفائف الحاوية للتَّعديل التَّاريخي الذي سينقذ به مراد التَّاريخ المصريَّ القديم من الازدراء! والذي كان المسيو هوارد كارتر قد لوَّح بكشفه في أوَّل الكتاب، ليشم القارئ هنا رائحة "خمايسينيَّة"، ومحاولة تقليب الأفكار بشكل صادم، كما في "منافي الرَّب" و"انحراف حاد"، لكن أي تقليب في الأفكار، وأي تنوير، والرِّواية تنتصر لفكرة تخليص الحضارة المصريَّة القديمة من فكرة تعدُّد الأديان واعتبارها رجس من عمل الشَّيطان يجب تبرئة التَّاريخ الفرعوني منها لصالح التَّوحيد كما يفهمه المتديِّن المتحفِّظ؟! وعندما حاول، في بعض المواضع النَّادرة من روايته، فعل ذلك فعله بخوف وسرعة، فبدا متناقضًا للغاية، حيث ينتصر طوال الرِّواية للتَّوحيد الموسوي، بينما يعارض بعضه أحيانًا! فأيُّ تنوير يمكن لروائي خائف، متردِّد، أن يُقدِّمه؟! ثمَّ؛ أين حالة أحمد مراد ذاتها؟ لقد تاهت بين حالات كل الكُتَّاب السَّابق ذكرهم!

كانت الرِّواية الثَّالثة، رواية النَّبي موسى، التي تدور قبل ألفين وخمسمائة سنة من الميلاد، هي أضعف روايات "أرض الإله"، رغم أنَّها طويلة جدًّا، جاءت كلاسيكيَّة كأنَّها مسرحيَّة عتيقة، أساء الكاتب عرضها للمنتهى، فالمفترض أنَّها ترجمة برديَّات قديمة قام بها كاي، بطل الرِّواية الثَّانية، سيندهش القارئ من موضوع اللفائف برمَّته، فلفائف تحكي قصَّة موسى مع فرعون، يكتبها كبير كهنة، لا بد وأن تخرج رصينة، ليست محمَّلة بأيَّة حوارات ولا سخريَّات ولا كلمات نابية، ستكون لغتها إخباريَّة موجزة على أحسن تقدير، تحكي بحياديَّة حتَّى وإن كانت تنتصر لأيديولوجيَّة ما، لا تنغمس في تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ لكن لفائف مراد تحكي التَّفاصيل الدَّقيقة بصياغة مهلهلة، كأنَّها رواية رديئة يكتبها أحد روائيِّي الفيسبوك كثيفي الانتشار هذه الأيام. ثمَّ كيف أمكن لكاي حمل كل هذه الإضمامات، التي تحوي التَّاريخ القديم، ويتنقَّل بها هاربًا في خفَّة، على نسق الأفلام الأمريكيَّة، وكأنَّ هذه اللفائف "سيديهايه" عصريَّة، أو شريحة "ميموري"؟! كما لا أفهم كيف لمترجم قديم يستعمل قلمًا من البوص، بحبر من رماد، على ورق بردي خشن، التَّمكن من ترجمة عشرات اللفائف كل ليلة؟!

كان يمكن اختصار هذه الرِّوايات  الثَّلاثة في رواية واحدة، رواية كاي، التي كانت مؤهَّلة بالفعل للقيام بذاتها كرواية رائعة، لو أنَّ مراد انتبه لهذا الأمر، ولم يهتم بنفخ ومط سطوره لتفرض "أرض الإله" سطوة شكليَّة أيضًا، بعد أن فرضت سطوتها الإعلاميَّة بجدارة!

وعلى أساس كُوِّن من قراءتي لرواية "الفيل الأزرق"، و"أرض الإله"، والأخيرة هي خامس رواياته، وبعد تجربة "1919"، فإنَّ على أحمد مراد إدراك إمكانياته الحقيقيَّة الكامنة في كتابة الرِّوايات التشويقية الخفيفة قبل فوات الأوان، تلك التي يلجأ إليها القرَّاء لنسيان الأمور الجادَّة التي تصدِّع رؤوسهم، من أجل قضاء أوقات ممتعة يرفِّهون فيها عن أنفسهم، أمَّا القضايا الصَّعبة كالتَّنوير، والتَّصحيح، وتفكيك التَّاريح، وقلب المعدول، وعدل المقلوب، وهز الثَّوابت، والتعرُّض لضرب النَّار، فإنَّها أمور يتصدَّى لها روائيُّون آخرون، يمتلكون عتاد المواجهة إبداعيَّا، مستعدُّون لدفع التَّكاليف الباهظة دون "ملاوعة من بعيد لبعيد".

 



فقَّاعة الرُّعب الأصولي

تنويه: هذه المقالة لا تستهدف تقديم صورة طيِّبة للإرهابيِّين، كما لا تستهدف وضع المزيد من الرتوش لإظهارهم بصورةٍ أكثر شيطانيَّة. إنَّها محاولة نظر فيما يجري بشكل حيادي لإيجاد حل يمكنه القضاء على السَّرطان الإرهابي الذي يستشري حثيثًا، وبنجاح، في كلّ الجسد العالمي رغم الحروب التي تشنّها حكومات الكوكب الأرضي ضدّه، وبمختلف أنواعها: معنويَّة، اقتصادية، استخباراتية. بل وبأقوى الجيوش العسكريَّة النِّظامية!

لن يمكننا التَّعامل بشكل حيادي مع الإرهاب لو لم نقدِّم تعريفًا واضحًا له، يضعه في إطار ملموس، كي نتمكَّن من الإحاطة به، ومن ثمَّ فحصه ودراسته، وبالتَّالي فهمه، بغية تحقيق نتائج مفيدة.

ما الإرهاب؟

ضع هذا السُّؤال على أيّ متصفِّح إلكتروني لشبكة الإنترنت لتجد أنَّ مئات التَّعريفات قد وُضعت كإجابة لهذا السُّؤال، وأنَّ مئات المتخصِّصين في موضوعه رفضوا اعتبار أيًّا من هذه الإجابات إجابة محكمة!

لكن المقطع المشترك فيها جميعًا ما يصفه بأنَّه فعل عنيف يرهب مدنيِّين آمنين لفرض واقع ما بالقوَّة.

مقطع مُحدِّد فعلًا لطبيعة الإرهاب، فلماذا يضيفون عليه تعريفات أخرى تدفع إلى رفضه؟

الإجابة عند الحكومات التي تدفع بجيوشها في مناحي الأرض ترهب بها الشُّعوب الآمنة لتفرض واقعًا ما بالقوَّة! ولو تمَّ الاتفاق على هذا المقطع الضَّافي، الوافي، الكافي، تعريفًا للإرهاب لأُدينت هذه الحكومات قبل الجميع.

هذه الحكومات تريد تعريفًا للأرهاب يُصاغ كالآتي: فعل عنيف "ذي صبغة إسلاميَّة" يُرهب مدنيِّين آمنين لفرض واقع ما بالقوَّة.

تعريف تآمري قطعًا، الهدف منه ضرب "عصفورين بحجر واحد"؛ أوَّل عصفور هو: لصق الدَّنيئة بالإسلام. أما الثَّاني فهو: اتِّخاذ الإرهاب حجَّة ووسيلة لتفتيت بلاده على الأساس العرقي، بحيث لا تجمعهم راية العقيدة الواحدة، أو حتَّى عَلَم الوطن الواحد، وإنَّما يتفرَّقون تحت رايات القوميَّات والأعراق، فيتشظَّون إلى هباء منثور.

هذه الحكومات الغربيَّة لم تعر الرُّعب التَّوراتي أدنى اهتمام، لم تلتفت لبحور الدِّماء التي طلب الرَّب من يهوده سفكها بصفتهم شعبه المختار! لم تهتز شعرة منها لمشاهد بقر بطون الحوامل، وجزّ رقاب الأطفال، التي تزخر بها كتب أبناء "إسحاق" المقدَّسة، لا لشيء غير أنَّ الضَّحايا ليسو من أتباع اليهوه الإسرائيلي، لكن قلوب هذه الحكومات أدماها النَّص القرآني: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ".

ولأننَّا لسنا في معرض الدِّفاع عن نصٍّ قرآنيٍّ كل تفسيراته تؤكِّد بعده التَّام عن المعني الإرهابي الإجرامي فسنغادره عائدين إلى محاولتنا الرَّامية لمناقشة مفهوم الإرهاب، ثمَّ التَّطبيق العملي عليه.

هل جارك محترم؟

لو أنَّه لا يتعدَّى على حقوقك المادِّية، أو المعنويَّة، خارج بيتك، ولا داخل بيتك، فهو محترم.

ماذا لو أنَّك وجدت في نفسك رغبة، رغم كل احترامات جارك لك، في أن تؤذيه لأيّ سبب من الأسباب لا يتعلَّق بانتقاصه لأي حق من حقوقك، وانتقلت رغبتك من مجال الأمنية إلى حدِّ الفعل؟

في هذه الحالة أنت إرهابيٌّ بما لا يحمل مجالًا للشَّك.

طيِّب نقلب الصُّورة.

جارك يؤذيك معنويًا وماديًّا، يريد إكراهك على مغادرة بيتك لأغراض توسُّعية تخصُّه، جارك يتمتَّع بعلاقات قويَّة برجال السُّلطة والقانون، يمارس ضدَّك مستغلًا صكوكًا حكوميَّة استخرجها بطرق غير قانونية ما يُسوِّد مستقبلك درجة قتل رغبتك في الحياة، لا تجد من يدفع عنك بوائقه، فأخذت سكِّينًا وعلَّمت بنصله على وجهه، أو حتَّى غرسته في قلبه.

في هذه الحالة هل هناك من يجرؤ على وصفك بالإرهابي؟!

لا أعتقد، لكن يمكن على أسوأ تقدير وصفك بـ"متَّهم ارتكب جريمة جنائيَّة"، وقد يتمكَّن أحد المحامين من تقديم دوافعك لارتكاب الجريمة لمحكمة نزيهة فتمنحك البراءة.

وقد اتُّفق على أنَّ "القاعدة" تنظيم إرهابي في ظلّ عدم وجود تعريف محدَّد للإرهاب!

حسنا.. ما القاعدة؟

في كتابها: "القاعدة.. نهاية تنظيم أم انطلاق تنظيمات". أوردت كريستينا هلميتش، الأستاذ المحاضر في العلاقات الدُّولية بجامعة ردينج في انجلترا، تصوُّرًا لماهية القاعدة يمكن اختصاره في أنَّها كيان وُجد بلا تخطيط لصدّ ما وُصِّف بالاعتداءات على بلاد الإسلام والمسلمين، وأنَّ هذا الكيان ليس له ترتيب إداري محدَّد، أو مراكز قيادة في دول العالم، وإنَّما ينتشر ويتمدَّد على أساس أيديولوجي.

بمعنى أنَّ هناك من الأفراد العاديِّين من يتبنَّى فكر القاعدة فيقوم بتنفيذ عمليَّة إرهابيَّة تُنسب فيما بعد إليها.

دارت كلّ فصول هذا الكتاب حول القاعدة منذ نشأتها، مرورًا بأعتى عمليَّاتها الإرهابيَّة، التي دمَّرت بها برجي التِّجارة العالميَّة، وأحد جوانب البنتاجون، في قلب أمريكا، بعمليَّة جرت أحداثها التي تقارب الخيال السينمائي في الثالث من سبتمبر 2003، وما استتبع هذه العملية من تأثيرات عليها، ومع ذلك لم يتناول، في أيّ فصل من فصوله، الأسباب التي كانت وراء ظهور القاعدة، وإن تناثر سبب وحيد بين دفَّتي الكتاب لا أعتقد أنه، رغم فعاليته، هو السَّبب الرَّئيس.

رغم أنَّ هذا الفصل الغائب هو أهم فصل!

ملخَّص الاتِّهام الموجَّه للإرهاب بوثيقة الإدانة التي تعلنها حكومات العالم الغربي، المتحضِّر! وحكومات عالمنا العربي، المتخلف! يشير إلى أنَّ سبب ظهور هذا الإرهاب أيديولوجيَّة إسلاميَّة متطرِّفة تستهدف العالم الحر، لا لشيء سوى كراهيَّتها لحضارته المتقدِّمة، القائمة على ديموقراطيَّة لا يؤمن بها فكرها المتطرِّف، وأنَّ هؤلاء الإرهابيُّون يريدون فرض الإسلام على العالم بالقوة، واستعادة الخلافة بكل وسائل العنف.

أدلى أسامة بن لادن، الأب الروحي لمن يُتعارف عليهم بـ"الإرهابيُّون الجهاديُّون"، بالعديد من البيانات، وأجرى العديد من الحوارات، لمراسلي صحف وقنوات منحهم ثقته، وجدت هذه البيانات والحوارات طريقها للأوساط الإعلاميَّة العالميَّة بشكل سريّ، وباستقراء بعضها عبر فحض يحلِّل أولًا ويستنتج آخرًا، لا يستنتج أوَّلًا ويحلِّل آخراّ، يمكننا معرفة مدى صحَّة الادِّعاء، حتَّى يتمّ التَّوصل إلى نتيجة فعَّالة يمكن الاستفادة بها جدِّيًّا للتخلُّص من هذا الإرهاب الضَّاري.

في ما سُمِّي بـ"إعلان الجهاد"، المؤرَّخ بـ23 أغسطس 1996، قال أسامة: لا يخفى عليكم ما أصاب أهل الإسلام من ظلم وبغي وعدوان من تحالف اليهود والنَّصارى وأعوانهم، حتَّى أصبحت دماء المسلمين أرخص الدِّماء، وأموالهم وثرواتهم نهبًا للأعداء، فها هي دماؤهم قد سُفكت في فلسطين والعراق، وما زالت الصُّور الفظيعة لمجزرة قانا في لبنان عالقة بالأذهان، وكذلك المجازر في طاجكستان وكشمير والفلبِّين والصُّومال وأريتريا والشِّيشان والبوسنة والهرسك، حيث جرت مذابح للمسلمين هناك تقشعرّ لها الأبدان، ويهتز من هولها الوجدان، وذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع، بل وبتآمر واضح من أمريكا وحلفائها بمنعهم السِّلاح عن المستضعفين هناك تحت ستار الأمم المتَّحدة الظَّالمة، فانتبه أهل الإسلام إلى أنَّهم الهدف الرَّئيسي لعدوان التَّحالف اليهودي الصَّليبي.

هذا المجتزأ من هذا البيان "الجهادي" يشير بوضوح إلى أنَّ أسامة بن لادن لم يمارس الفعل الإرهابي على سبيل الهواية والاستمتاع، أو حتَّى على سبيل الاستعراض. كما لم يتناول المجتزأ، من قريب أو بعيد، نقدًا لحضارة الغرب وديموقراطيَّتها. أيضًا لم يعلن الجهاد لنشر الإسلام في بلاد الكفر. ولا نوَّه لموضوع استعادة الخلافة. بل مارس الفعل الإرهابي كـ"ردّ فعل" على فعل إرهابي "مُشرعن" تمارسه حكومات الغرب "الوديعة!"، ضدّ البلاد والقوميَّات المسلمة تحديدًا، حدَّدها هذا المجتزأ بأسمائها، موجهًا بدوره الإدانة إلى تحالف ثلاثي "يهودي ـ مسيحي ـ أعوانهما"، بقيادة أمريكا تحديدًا، التي تستخرج من الـ UN التَّصاريح اللازمة لممارسة إرهابها، مواصلة بذلك إحياء فكرة الحروب الصليبيَّة المقدَّسة ضدّ الإسلام.

عداء الحضارة الغربيَّة بكل ما تحمله من مثالب، حسب رؤية أسامة بن لادن لها، درجة ممارسة الإرهاب العنيف ضدّها غير واردة في عقله من الأساس، وإنَّما انصبَّ عداؤه على الحكومات التي لا ترغب في علاقة تعايش متكافئة مع دول العالم الإسلامي، تفرض مفاهيمها عليه بمختلف أصناف الحروب المعنويَّة والمادِّية، ليبقى متخلِّفا، مجرَّد آبار نفطيَّة تمتص منها طاقتها، وسوق كبيرة لمنتجاتها التِّقنية والفكريَّة؛ وحكومة أمريكا هي رأس هذه الحكومات.

يقول أسامة في المجتزأ الثَّاني: لقد أعلنَّا الجهاد ضد حكومة الولايات المتَّحدة لأنَّها حكومة غير عادلة، وتمارس الإجرام، لقد ارتكبت أفعالًا ظالمة بشعة وإجراميَّة إلى أقصى حد، سواء بأسلوب مباشر، أو من خلال دعم الاحتلال الإسرائيلي لأرض إسراء الرَّسول، ونعتقد أنَّ الولايات المتَّحدة تتحمَّل المسؤوليَّة المباشرة عمَّن قُتلوا في فلسطين ولبنان والعراق، إنَّ ذكر الولايات المتحدة يذكِّرنا قبل كل شيء بهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين تقطَّعت أوصالهم ورؤوسهم، وبُترت أذرعتهم، في الانفجارات التي وقعت مؤخرًّا..

إنَّ أسامة بن لادن ليس كما تصوِّره لنا وسائل إعلام العالم، رجلًا بلا قلب ولا مشاعر، يشرب الدِّماء ويتكرَّع من فرط اللذة، بل ها هو يقدِّم نفسه كإنسان طبيعيّ يعرف مدى قسوة صور الأطفال المقطَّعة رؤوسهم وأوصالهم، تلك التي رسمتها اليد الحالمة لرؤساء هذه الحكومات المتحضِّرة، قبل أن يضطرُّوه لرسم مثلها. كما أنَّه يدين أمريكا بمظلوميِّته كرجل مسلم، لا كرجل عالمي، وإلَّا لذكر في عريضة مبرراته تحمُّل حكومة أمريكا مسؤوليَّتها عن أشهر جريمة إبادة تاريخيَّة على مدى التَّاريخ الإنساني في هيروشيما ونجازاكي اليابانيَّتين، وعن أقذر حرب في فيتنام. إنَّه يقدِّم نفسه أيضًا كرجل يعرف حدوده.

يقول في المجتزأ الثَّالث: لقد تخلَّت تلك الحكومة عن المشاعر الإنسانيَّة، لقد انتهكت كلَّ الحدود وتصرَّفت بأسلوب لم تشهده أيَّة قوَّة، أو أيَّة إمبرياليَّة في العالم، كان عليهم أن يكونوا حسَّاسين لحقيقة أنَّ قبلة المسلمين تستثير عواطف جميع العالم الإسلامي، إنَّ صلافة نظام الولايات المتَّحدة واستكباره، وبسبب خضوعه لليهود، قد وصل إلى درجة احتلال قبلة المسلمين الذين يتجاوز عددهم مليار شخص.

إنَّه مستمر في التَّأكيد على بعده التَّام عن فكرة عداء أية حضارة لمجرَّد عدم رضائه عن أسسها الفكريَّة، أو ممارساتها المجتمعيَّة الدَّاخلية، مضيفًا تبريرًا آخر لفعله الإرهابي، هو أنَّ أمريكا، التي يقودها اللوبي اليهودي، بوجود قواعد لها في السُّعودية، كسابقة لم تحدث من قبل لأراضي الحرمين الشَّريفين، قد قامت باحتلالها معنويًّا، وكان ما وصفه بالاحتلال طعنة نجلاء أوغرت قلب أسامة بن لادن ووجَّهته للفعل الإرهابي كوسيلة مقاومة.

في المجتزأ الرَّابع يقول ابن لادن: إن عصابة الإجرام في البيت الأبيض تصوِّر الأمر على غير حقيقته، بل يزعم زعيمهم الأحمق المطاع أنَّنا نحسدهم على طريقة حياتهم، وإنَّما الحقيقة التي يخفيها فرعون العصر أنَّنا نضربهم بسبب ظلمهم لنا في العالم الإسلامي، وخاصَّة في فلسطين والعراق واحتلالهم بلاد الحرمين.

في هذا المجتزأ ينكر، بمنتهى الوضوح، ضربه لحضارة العصر حسدًا لها، بل يضرب طغاتها لأنَّهم يظلمون العالم الإسلامي ويحتلُّون بلاده.

في المجتزأ الخامس يفتي بأن "قتل الأمريكيِّين وحلفائهم، مدنيِّين وعسكريِّين، فرض عين على كل مسلم في كل بلد متى تيسَّر له ذلك، حتَّى يتحرَّر المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضتهم، وحتَّى تخرج جيوشهم من كل أرض الإسلام، كسيرة الجناح، عاجزة عن تهديد أي مسلم".

حتَّى في هذه الفتوى لا تلوح شبهة مقت الحضارة الغربيَّة ومقوِّماتها كسبب لقتل الأمريكيِّين كافَّة وحلفائهم؛ كما لا تلوح فكرة نشر الإسلام في بلادهم كسبب مغاير؛ ولا لإقامة دولة الخلافة سببًا ثالثًا؛ وإنَّما إجازة قتلهم لتخليص المسجد الأقصى من قبضة اليهود المحتلِّين، ولتحرير بلاد الإسلام من جيوش أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا المحتلِّين، وحتَّى يعيش المسلم آمنًا من تهديداتهم.

من كل ما سبق يتَّضح أن إرهاب القاعدة، وما يشابهها، لم يكن دافعه كره الآخر في المطلق، وإنَّما كره حكوماته المشغولة باستهداف العالم الإسلامي بكلّ حيلها التَّوسعية الاستغلاليَّة الاحتلاليَّة، وبالتَّالي هو يقوم فقط بمحاولة استعدال كفَّة الميزان لصالح بلاده الإسلاميَّة المستضعفة.

ولأنَّ ردّ الاعتبار والمظالم الدُّولية فعل يجب على المؤسَّسات والحكومات الدُّولية القيام به، سلمًا أو حربًا، خاصَّة حكومات هذه الدُّول الإسلاميَّة الواقع عليها اعتداء المعتدين، فبأي صفة يقوم أسامة بن لادن، وغيره من القيادات الإرهابيَّة، بمهمَّة ليست من مهامِّه كمواطن مسلم عربي عادي؟

في الطَّريق إلى أحد فنادق حي الدُقِّي بالقاهرة لإجراء حوار حول روايتي "منافي الرَّب"، وبعد أن تبادلنا السَّلامات والتَّحيات، وبينما نمضي في شارع التَّحرير المزدحم بالسَّيارات المزعجة، والنَّاس المتبلِّدة، وأكوام صغيرة من قمامة تضع بصمتها الجمالية في كلّ مكان من هذه المدينة العملاقة، أبدى رفاييل كورماك إعجابه الشديد بمدينة القاهرة، ومصر عموما!

لم يكن كورماك شخصًا باردًا كما يشاع عن الإنجليز، ولا ممتلئ صلفًا، بل دافئ الابتسامة، رقيق الكلام، يحسن التعبير بصدق وتدفُّق عما يعجبه من أشياء، حتَّى إنَّه يرتكب خطيئة المجاملة أحيانًا، فشجَّعتني عفويته على مباغتته بسؤال لا علاقة له بدافع لقائنا: لماذا تصر بريطانيا على ترتيب المؤامرات لبلادنا العربيَّة؟

وكانت صحافيَّة ألمانية، لا أتذكَّر اسمها للأسف الشَّديد، قد طلبت لقائي لمحاورة حول "منافي الرَّب" أيضًا، فجلست معها على كرسيِّين غير مريحين في مقهى "زهرة البستان" بوسط البلد، امرأة أربعينيَّة طويلة، هشَّة البنيان، ليست منطلقة مثل رفاييل، وليست دافئة مثله، بل مكلكعة وباردة، حتَّى أنَّني استُفززت فباغتها بسؤالي عن هذه الدُّول الأوروبيَّة، ومنها ألمانيا، التي لا تكف عن حياكة المؤامرات والدَّسائس لبلادنا.

ابتسم رفاييل ابتسامة حقيقية، وقال: يا صديقي. بريطانيا مشغولة بشؤونها وتحدِّياتها الدَّاخلية لدرجة لا تجد معها وقتًا لترتيب مؤامرات ضدّ أحد.

ابتسمت الصَّحافية الألمانيَّة ابتسامة باردة وقالت: بصفتي مواطنة ألمانيَّة أقول لك إنَّنا مشغولون دائمًا بالتُّكنولوجيا والعلوم والفنون، ليس لدينا وقت نضيّعه في هذه الأشياء، لقد كانت لنا تجربة ليست لطيفة تعلَّمنا منها الكثير، وأعتقد أنَّ أوروبَّا تعلَّمت منها أيضًا.

الحقيقة أن إجابتيهما، والنَّبرة الواثقة التي يجيبان بها، يحضًّان المرء على إعادة التَّفكير في طريقة تعاطيه مع سياسة الغرب، لماذا نحن هنا، في الشَّرق، مصرُّون على أنَّ الغرب يتآمر ضدَّنا؟ هل نفكِّر بهذه الطَّريقة الشِّريرة لأنَّنا بالأساس شعوب حُكمت طوال الوقت بأنظمة لا تتمكَّن من الصُّعود إلى الحكم إلَّا بتدبير الدَّسائس؟ هل لأنَّ هذه الأنظمة نفسها لا يفتأ يتَّهم بعضها بعضًا بالعمالة للغير عند أي بادرة خلاف فيما بينها؟ فصارت نظرية المؤامرة تكوينة من تكوينات جينات عقولنا، تلوح فورًا كدافع خلف كل تصرُّف، مهما كان هذا التَّصرف مخلصًا وبريئًا!

أتخيَّل رفاييل والصَّحفية الألمانيَّة وهما يهزَّان رأسيهما موافقة، وبسمة ترسمها شفاههما، يؤكِّدان على صحَّة ما وجَّها عقلي إلى استنتاجه، لذلك سأستمر في ممارسة حسن النيَّة، وسأعتبرهما من نوعيَّة هؤلاء المثقَّفين التي تعج بها الأوطان في كل مكان، الذين يظنُّون دائمًا أنَّ بلادهم منكبَّة على مشاكلها الدَّاخلية، مهتمَّة باقتصادها، لا تُولي اهتمامًا بسياسات ما حولها من دول، طالما أنَّها سياسات ليست عدائيَّة؛ وحتَّي مصر، أو أي قطر عربي، لا يخلو من هذا الصِّنف البريء، بل قد يعج بنوعيَّة أكثر براءة، تلك التي تهوى جلد الذَّات، وصبّ كلّ النَّقائص على النَّفس، في الوقت الذي تهيم بالآخر حبًا وتقديرًا، تربت عليه حنانًا وامتنانًا، تسبغ عليه من كل صفات الكمال!

ها أنا حسن النيَّة، وسأقر بأنَّه لا مؤامرات دوليَّة هنا أو هناك، وأنَّ الحروب التي لا تنطفئ جمرتها في مختلف انحاء العالم، على مرّ التَّاريخ، وفي الحاضر المعاصر، إنَّما هي حروب تشنّها الدُّول والإمبراطوريات الكبرى لتحقيق أهداف نبيلة تحت شعارات مختلفة، مثل: إخراج الأمم من الهمجية إلى التَّحضر. أو: هداية الدول الديكتاتورية إلى الديموقراطية.

أعمارنا قصيرة، لم نعش عصر الإمبراطوريَّة اليونانيَّة العظيمة، وتوسُّعات الإسكندر المقدوني بمشورات الفلاسفة لنشر حضارة هذه الإمبراطوريَّة في أنحاء العالم المتخلِّف كي يستضيء، لم نعش زمن حروب نبوخذ نصَّر التي قامت على نفس الأساس، كما لم نكن حاضرين حروبًا قادها عرب شبه الجزيرة العربيَّة هيَّجتها تلك الرَّغبة في نشر الإسلام واستنقاذ الأمم من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، كما لم نحضر حروب أوروبَّا الصَّليبية التي نهضت لاستخلاص مدينة الله ومهد الكنيسة من يد الأجلاف المسلمين أعوان الشَّيطان! كل هذه الحروب أخبرنا عنها التَّاريخ، حتَّى قُدِّر لنا معايشة سياسات الدُّول القويَّة في عصرنا الحاضر، لنرى التَّاريخ حاضرًا طازجًا فنشاهد الخدعة رأي العين لا بإخبار الكتب.

من منَّا لم تصك أذنيه، عبر الرَّاديو أو التِّلفاز، مطالبة أمريكا وأوروبَّا الحكَّام العرب بتحقيق الدِّيموقراطية لشعوبهم؟ ومن منَّا لم ير في ذات الوقت مئة يد مساعدة أمريكيَّة وأوروبيَّة لهؤلاء الحكَّام كي يُرسِّخوا أنظمتهم المستبدَّة اكثر وأكثر؟ مع ذلك لا يغفر هؤلاء الحكَّام العتاة لمسانديهم مطالباتهم العلنيَّة المحرجة لهم، الخاصَّة بتحقيق الدِّيموقراطية، فيقرِّرون بدورهم إحراج أمريكا وهذه الدُّول الأوروبيَّة التي تقأقئ على قأقآتها.

يقومون بإجراء إنتخابات نزيهة، وهو الاستحقاق الأساسي في الفعل الدِّيموقراطي، فيفوز الإسلاميُّون؛ عندما يفوز الإسلاميُّون تنسى أمريكا وأوروبَّا كلامهما عن الدِّيموقراطية فيتدخَّلا بكل السُّبل القميئة لإفشال نتائج الانتخابات، تدبِّران الدَّسائس والمكائد لإزاحة الإسلاميِّين عن ممارسة حقوقهم السِّياسية التي اكتسبوها بالانتخابات، لا بالسِّلاح والإرهاب، ولا يهدأ لهما بال حتَّى تسقطاهم فعلًا. حدث هذا في فلسطين، والجزائر، ومؤخرا مصر، ثم لا تنفتح أفواههم بعد ذلك بأي كلام عن أي ديموقراطيَّة! لتكون النَّتيجة الحتميَّة هي تصرُّف المظلومين سياسيًّا تصرُّفات عنيفة أُلجئوا إليها، تنشق حماس بغزَّة، تعاني الجزائر من انشقاق مجتمعي، موار يئز في القلب المصري.

تجارب المحتلِّين مع المتمسِّكين بالفكرة الإسلاميِّة صعبة، من ثمَّ يفضِّلون اللعبة قوميَّة، لا عقائديَّة، فعار إهانة الأرض لا يملأ الإنسان بالغضب كما يملأه عار إهانة الدِّين، الأرض لا تحضّ الإنسان على الجهاد ضد المحتلِّين كما يحضّه الدِّين، العلمانيُّون لا يفرق معهم كثيرًا الذَّوبان في أيّ ثقافة طالما أنَّها الثَّقافة الأقوى، بالتَّالي يمكن للأرض أن تصير تابعًا للمحتلِّين حتَّى وإن كانت تحت سيادة وطنيَّة! بينما الإسلاميُّون يتمسَّكون بثقافتهم حدّ التَّشبُّه بأسلاف عاشوا منذ مئات القرون، مجرَّد تغيير الثَّقافة يعتبرونه احتلالًا، يقاتلون عن أي أرض إسلاميَّة في أي مكان من العالم بمزاج عال معتقدين أنَّهم فائزون في كل الأحوال، إمَّا النَّصر أو الشَّهادة، فتصعب مستلزمات الاستيطان بالنِّسبة للمحتلِّين إلى درجة لا تطاق، فينهزمون.

لذلك على الإسلاميِّين أن يظلُّوا خارج ساحة اللعب بإرادتهم، أو رغم أنوفهم.

لكن هل الدُّول الغربيَّة غير الإسلاميَّة فقط هي من تسعى لاستبعاد الإسلاميِّين، أم أنَّ بعض الدُّول العربيَّة، والإسلاميَّة، تسعى نفس المسعى؟

وإن كانت تسعى نفس المسعى، فلماذا؟

يستغل الحاكم، الدِّيكتاتور، ما هو مقدَّس لتحقيق ما هو مدنَّس، فيضع الله جل وعلا صانعًا للألعاب في الملاعب السِّياسية، يضبط بوجوده التَّوازن المطلوب داخل دولته، أو مملكته، أو إمارته، يسجِّل لصالحه أهدافًا مهمَّة في أوقات بالغة الصُّعوبة!

شرقنا المتوسِّط مستنقع يذخر بالعديد من الحكَّام الطُّغاة، ومستنبع الوجود الإلهي المتفاعل مع الإنسان عبر الكتب والرُّسل، وأينما تلازم الحاكم الطَّاغية مع الله ضاع شعباهما، فالله طيِّب بينما الحاكم الدِّيكتاتور خبيث، الطَّيب يعف عن استخدام الخبيث بينما الخبيث يسعى حثيثًا لاستخدام الطَّيب، ما ينتج عنه صيرورة السَّاحة السِّياسية الشَّرق متوسِّطية ملعبًا تدور فيه أقوى أوسخ المباريات السِّياسية في العالم؛ كيف لا تكون كذلك والـ"بلاي ميكر" المُستخدم هو الله نفسه؟!

شعوب الدُّول الشَّرق متوسِّطية، العربيَّة بالخصوص، مسلمة، قد تأتي بأفعال الكفر لكنَّها تعشق إسلامها حدّ الاستشهاد في سبيله، الدُّول تقوم على شعوب، الأنظمة تقوم على دول، الطُّغاة يقومون على أنظمة شموليَّة مستبدَّة، النِّظام الشُّمولي في دول شرق المتوسِّط يقتات على الدِّين الذي تعشقه شعوبها، لذلك تحرص هذه الأنظمة الفاسدة على وضع دساتيرها مُضمَّنة بمواد تؤكِّد على أنَّ عقيدتها الإسلام، وأنَّ قوانينها مستخرجة من روح الإسلام، في حين أنَّ العقيدة الحقيقيَّة للنِّظام أبعد ما تكون عن الإسلام، أبعد لدرجة عدم ممانعته في التَّحالف مع أعداء الإسلام ضد المسلمين في أي مكان، طالما أدَّى التَّحالف إلى الالتصاق لأطول مدَّة بكرسي العرش، وتبريراته لهذا التَّحالف هي نفس تبريرات أعداء الإسلام: إنَّه ضد الإسلام المتطرِّف وضد الإرهابيِّين.

لكن هذه الأنظمة تعلم أنَّ شعوبها تنقاد أسلس باسم الدِّين، يتم استعباطها بغباوة باسم الله، بهما يتم حلبها إلى آخر قطرة دون اعتراض ذي بال، وقصّ أصوافها، وأكل لحومها، بينما تدندن بألحان الصبر، وتوجيهها إلى ما يحب النِّظام الحاكم ويرضى بلا أي نبرة سخط منها.

ولأنَّ شعوبنا دينيَّة، وبينما تعلن الأبواق الإعلاميَّة ليل نهار رفض الأنظمة الحاكمة لأي تعامل من قبل المعارضين السِّياسيين لاستغلال الدِّين، تنشط حكومات هذه الأنظمة إلى تقديم منتج ديني عادة ما يكون بالغ الرَّداءة إذا قارنَّاه بالمنتج الدِّيني الذي تقدِّمه مصانع القطاع السَّلفي الخاص! فالإسلام الحكومي مدجَّن إلى أقصى مدى، مائع، دلع، يمكن فيه للشَّيخ أن يُطلق على القتيل اليهودي لقب شهيد لموافقات سياسيَّة! يمكنه الفتيا بجواز حصار المسلم المصري للمسلم الفلسطيني في غزة لصالح الإسرائيلي الصُّهيوني المحتل! يبيح للجيوش المسلمة تقديم يد العون لجيوش الغرب المسيحيَّة السَّاعية إلى تدمير الجيش العراقي المسلم، يبارك الموافقات العربيَّة الصُّهونية ضد منظَّمتين مسلمتين مقاومتين كحماس وحزب الله، لا يهمس بنبسة اعتراض واحدة ضد الحكَّام المسلمين الذين يواصلون الفرجة على العتاد اليهودي وهو يواصل دك ديار المسلمين في فلسطين لشهر كامل، يُقتل النِّساء والشُّيوخ والأطفال دون أي محاولة جادَّة وحقيقيَّة لوقف هذا العدوان! كما لا يجد بعض المشائخ الحكوميِّين حرجًا في حضور حفلات الموسيقى والرَّقص والغناء مع رأس النِّظام في المناسبات الوطنيَّة، ويمكنه إجازة مصافحة النِّساء ولمس الأجنبيَّات! لا يعترض على الاختلاط بين الجنسين، وقد يخرج منهم من يسير مع السَّائرين في طرق إباحة شرب الخمر!

أمَّا الإسلام الذي يقدِّمه القطاع السَّلفي الخاص فهو إسلام يشفي صدور قوم مستضعفين، إذ أنَّه واضح إلى أقصى درجة، شرس، لاذع، يعلن رفضه لإسرائيل، وأنَّها إلى زوال مهما بلغت من قوَّة، يرافض المظالم الدُّولية التي تُرتكب في حقِّ الإسلام وبلاده، لا يجيز التَّحالف مع غير المسلمين ضد المسلمين مهما بلغ حد جرم هؤلاء المسلمين، يراقب السَّاحة الدُّولية، له طموحات حضاراتيَّة مبنيَّة على حضارته التَّاريخية، يؤمن بأنَّ استعادة المجد الإسلامي لن تكون في اتِّباع الأفكار الغربيَّة، خاصَّة وأنَّ كل معارك الغرب الفكريَّة موجَّهة بالأساس إلى الإسلام، وإنَّما في اتِّباع نفس النَّهج المحمَّدي الذي حوَّل قبائل وعشائر متناثرة في صحراء نجد، لا حول لها ولا تأثير على مدى التَّاريخ الإنساني الطَّويل، إلى دولة هائلة ابتلعت الفرس والرُّوم في وقت واحد، فتحت أربعة أخماس العالم في أقل من مائة عام، كادت تجعل من البحر الأبيض المتوسِّط بحيرة إسلاميَّة، النَّهج القائم على إخلاص التَّوحيد لله، إعلاء كلمة الإسلام، المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، عدم ترك الجهاد الذي ما تركته أمَّة حتَّى سقطت في هوَّة الذُّل، يحرِّمون شرب الخمر، المراقص، الغناء، لا يبيحون اختلاط الرِّجال بالنِّساء، يرون ضرورة إقامة الحدود الإسلاميَّة على العصاة بدءًا من إتيانهم الزِّنى وانتهاء بترك الصَّلاة.

ومهما أعلنت الشُّعوب المسلمة في وسائل الإعلان رفضها للإسلاميِّين المتشدِّدين، اعتراضًا على ما ورد في آخر أربع سطور من صفات منتجهم، والتي تشعر هذه الشُّعوب بسببها أنَّها ستكون خاضعة لرقابة الدِّينيين الخانقة، إلَّا أنَّها تحمل في قلوبها كلّ الودّ والإعزاز والتَّقدير للمنتج الأصولي المقاوِم سياسيًّا على المستوى العالمي. ها هي كريستينا هيلميتش، تؤكِّد في كتابها ما نرمي إليه فتقول في الفصل الرَّابع منه: إنَّ الكثير من منطق بن لادن يلقى القبول على نطاق واسع، ويتردَّد أصداؤه في أنحاء العالم الإسلامي. يظهر في مسح أجراه مركز Pew للتَّوجهات الدُّولية والصَّادر في يولية 2005 أنَّ عددًا من المسلمين يثير الدَّهشة يثقون في سلوك بن لادن الخاص بالشُّؤون العالميَّة، ففيما بلغ معدل دعم بن لادن في المغرب 26%، وأندونيسيا 37%، فقد بلغ في باكستان 51%، كما ارتفع دعم القاعدة في الأردن من 55% إلى 60%". وبالتَّأكيد هناك من لم يُلق برأيه صراحة في هذا الاستبيان خوفًا من أن يكون شركًا من الشِّراك التي تستخدمها أجهزة أمن الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد، وإلَّا فإنَّ هذه النِّسب كانت قد ارتفعت عن هذا المعدَّل كثيرًا.

إذن تستنبط بعض الأنظمة الحاكمة في بلادنا دينًا إسلاميًّا مخفَّفًا تستتر خلفه، تداري به عوراتها المتمثِّلة في سقوطها المهين، كونها رضيت بوضعها كأدوات تستغلّها الدُّول الكبرى في تحقيق أهدافها داخل بلاد العرب والإسلام، لتبقى في عروش الحكم تمارس سلبها ونهبها لقطعان الشُّعوب. فلأيّ سبب تتمسَّك هذه الأنظمة بالحكم طالما لا تحقِّق أيّ تقدُّم لبلادها ومواطنيها إن لم يكن لأهداف شخصيَّة كالإثراء والتَّسلط والهيمنة على المواطنين إلى الأبد؟

حارب محمَّد علي جيوش الدَّولة العثمانيَّة، انتصر عليها في مواقع كثيرة، كاد يخترق حدودها الأصيلة في الأناضول، قُتل في هذه الحروب الآلاف من الجنود المصريِّين، أُهدرت أموال لا تُحصى من ضرائب فُرضت عنوة على الشَّعب المصري لتجهيز المؤن والعتاد، كل ذلك كي يتمكَّن محمَّد علي من فرض أمر واقع على السُّلطان محمود العثماني.

ما هو هذا الأمر الجلل الذي سعى محمَّد علي إلى فرضه بكل هذه الحروب؟ إنَّه هدف بالغ النُّبل والأهميَّة للشَّعب المصري: توريث ذرِّيته من بعده حكم ولاية مصر والشَّام!

لمثل هذه الأمور يعمل العديد من القائمين على رؤوس الأنظمة في شرقنا المتوسِّط، بينما يعلن الإسلاميُّون أهدافًا كبرى، قبلنا بها أم لم نقبل إلَّا أنَّها تمثِّل بالفعل أهدافًا كبرى، أهمُّها الوحدة الإسلاميَّة لاستعادة الوضع الرِّيادي لحضارة الإسلام، من ثمَّ تقديم صورة مشرقة للإسلام السِّياسي الذي سادت حضارته العالم لألف سنة تقريبًا، كانت دولته قبلة الباحثين عن العلم والتَّقدم في جميع المجالات، بدءًا من علوم الكلام وحتَّى العلوم التَّطبيقيَّة، كأفضل وسيلة لنشر الإسلام ذاته بين شعوب الأرض.

إنَّ أهداف هذا البعض من النُّظم الحاكمة لا تلتقي أبدًا وأهداف الإسلاميِّين السِّياسيين، لذلك ينتج الصِّراع الذي عادة ما ينتهى لصالح الإسلاميِّين بالممارسة الدِّيموقراطية والانتخابات، ليسارع التَّحالف الوثيق بين دول الغرب الرَّافضة لفكرة الإسلام السِّياسي، والأنظمة الاستبداديَّة الدَّاخلية الرَّافضة، أيضًا، لفكرة الإسلام السِّياسي، لتدبير المؤامرات التي تنتهي بتحطيم لعبة الدِّيموقراطية، والدَّفع بالإسلاميِّين الفائزين إلى الفراغ، قبل الزَّج بهم إلى المعتقلات.

في المعتقلات ظلم وظلام، الشَّر نبتهما، الاضطهاد يمزِّق نياط القلوب، نهش الفرصة من يد صاحبها فعل غادر يحض على الغدر، يبقى الإسلاميُّون داخل المعتقلات يجترُّون هزائمهم غير الحقيقيَّة، التي تتحقَّق بمساعدة شعوب يسهل لأي مذيع في برنامج تليفزيوني غسل أدمغتها في ربع ساعة، لتكون النَّتيجة ازدياد كفر الإسلاميِّين بالسِّياسة، والتَّوجه لحمل السِّلاح، يرفعونه في وجه الكيانات الثَّلاثة التي تصر على عدم منحهم الحقّ في استغلال استحقاقاتهم الانتخابيَّة، وهي: الدُّول الغربيَّة وبالخصوص الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. الأنظمة الحاكمة في هذه الدُّول العربيَّة. الشُّعوب العربيَّة التي يقرطسها المذيع "الأمنجي"، أو المذيعة "الأمنجية"، في ربع ساعة.

معلوم أنَّ الخلاص من الإرهاب لن يكون أبدًا بتجييش الجيوش، وإبرام التَّحالفات الدُّولية، فنظرة على الأحداث المعاصرة تؤكِّد على أنَّ الإرهاب يستفحل كلَّما تأجَّج أوار الحرب، وإنَّما يتحقَّق الخلاص بطريقة أسهل كثيرًا من إشعال فتائل الحروب، إنَّها ممارسة الدِّيموقراطية في بلادنا، واحترام خطوات ممارساتها، مع عدم تدخُّل الدُّول الأخرى في شؤوننا الدَّاخلية، ليفز الإسلاميُّون، ولنتحوَّل إلى معارضة سياسيَّة، إذ يمكن تأخير المؤامرات ضدّهم والتَّحالف مع الدُّول الخارجية لإسقاطهم عندما نراهم يركلون اللعبة الدِّيموقراطية لصالح أي استبداد إسلامي يلوح في الأفق.

هذا هو الحل الوحيد للمسألة الإرهابيَّة، مع ذلك سيبقى الحل الذي لن يتم اللجوء إليه، لأنَّه لن يقضي على الإرهاب فقط، بل سيقضي أيضًا على هذه الأنظمة الشَّرق أوسطيَّة الدِّيكتاتورية نفسها، ويكوي في ذات الوقت أيادي الحكومات الغربيَّة التي عشقت أصابعها اللعب في سياساتنا الدَّاخلية الحسَّاسة!

متى يحصل المواطن العربي على الوعي الكفيل بحمايته من "ربع ساعة غسيل مخ" ليدفع كلَّ الأمور السِّياسية باتِّجاه سعادته هو بالخصوص في مستقبل الزمان، بعيدًا عن أي إرهاب، دولي "مُشرعن" أو أصولي "مسرطن"؟  



 

المفتريَّة

حكت لي أمِّي، نقلًا عن جدَّتي، إنَّ امرأة لم يكن يرضيها قليلُ زوجها ولا يعجبها كثيرُه، ساخطة عليه في كلِّ الأحوال، غير مهتمَّة بمطعمه فلا يشبع المسكين من ثمرةِ شقاه وكدِّه؛ فلمَّا فاض به الكيل، بعد سنين من عشرتها السَّيئة، فضفض لصديقه عن حياته البائسة، وكان الأخير خبيرًا بسياسة النِّساء، فقدَّم له خطَّة لحل مشكلته، مفادها: تطليقها ليتزوَّجها بدلًا منه!

قال له الصَّديق بنبرة ساخرة: إنت راجل طيِّب، واللي زي مراتك دي محتاجة تربية من أوِّل وجديد عشان تتعلِّم ازَّاي تسمع كلام جوزها وتبوس جزمته.

ثم وعده بأنَّه، فور تعلُّمها هذه الخصال، سيُنهي المهمَّة لتعود إلى عصمته زوجة طيِّعة، ذلول.

تقول الحكاية الشَّعبية إنَّ الزَّوج، قليل الحيلة، وافق.

ليلة الدُّخلة، خطت العروس إلى غرفة نومها فرأت قطَّة تنام في السَّرير، قطَّبت جبينها و"زَغَرت" لزوجها الجديد، وقالت بعجرفة المتسلِّط: قطَّة في فراشي!

نهر العريس، مروِّض المتعجرفات، القطَّة كي تترك الفراش فلم تحرِّك ساكنًا، أخرج مطواة من سيَّالة جلبابه، قبض على رقبة القطَّة، ذبحها أمام ناظري العروس، التي انزلقت عجرفتها من ثنيَّات جبهتها ليتسلَّقها الهلع؛ وبينما الرُّعب يرقص في عينيها قال الرَّجل مبتسمًا ابتسامة جليديَّة: أصلي ما بحبش اقول الكلمة مرِّتين.

ثم أردف يأمرها: اطلعي السَّطح يا عروسة هاتي لنا بطِّيخة ناكلها.

قبل أن تفكِّر في غرابة الطَّلب، "بطِّيخة على سطح بيت في ليلة دخلة شتويَّة!"، هتفت بحنجرة متحشرجة: حاضر.

قطعت أمِّي الحكاية لتعلِّق بالآتي: زين الرِّجال سيدنا محمَّد قال إن المَرَة مِنِّنا اتخلقت من ضلع عِوِج.

جرت الهانم نحو السُّلَّم، الأجواء صقيع، جلدها يرتعش، فتَّشت السَّطح فلم تجد أي بطيخ! ولا حبَّة واحدة!

عادت بركبتين متخبِّطتين، صورة رأس القطَّة الطَّائر تُربك دقَّات قلبها، قالت بصوت ضائع إنَّها لم تجد أي بطِّيخ على السَّطح، فنظر إليها نظرة ناتئة كنصل المطواة الغارق في الدِّماء، وجزَّ على ضروسه قائلًا: قلت ما بحبِّش أكرِّر كلمتي مرِّتين.

دارت على عقبيها بأسرع ما يكون وجرت تصعد درجات السُّلَّم.

قال أبي إنَّ رجل العقود الزَّمنية الماضية أصليٌّ، ورجل الحاضر عِيرة؛ الأصلي همُّه يضع الهيبة في قلب زوجته، النِّساء يعشقن الرَّجل الهيبة؛ العِيرة "هيَّاس"، لسانه يقطُر مسخرة، كل همّه "يتسهوَك" بكلام الحب، كلام الحب يليق بالحريم، أمَّا الرِّجال فإنَّهم يقومون بأعمال الحب. وقال إنَّ المرأة تلعب بالرَّجل الذي لا تهابه وإن أحبَّته حتَّى تكرهه، فإن كرهته حوَّلته إلى "شُخشيخة".

عندما تحملني الظُّروف إلى الجلوس على مقاهي وسط البلد، في القاهرة، أرى الشَّباب الـ"كيوت"، أصحاب الشعور المنسابة على رسلها، أو في ضفائر، يبرقشون جلودهم بالوشوم الغامضة، يتكلمون بميوعة، يجالسون فتيات مسترجلات، يُدخِّن الشِّيش والسَّجائر، يرقعن الضِّحكة المدوِّية "ولا أجدعها فتوَّة في أجعصها حارة"؛ أهمس لنفسي: عليه العوض ومنه العوض! هل يصلح الذَّكر المهتم اهتماما بالغا بضفائر شعره، وتزيين جلده، لإنشاء بيت حقيقي؟ أقصد هل يصلح لقيادة امرأة كي تُنشيء له بيتًا حقيقيًّا؟! ربما مثل هذا لا يصلح لأكثر من إنشاء بيت شعر، يهمس به في أذن بنت تحلم بعشٍ، معلق على غصن حب، يشاركها فيه ملكٌ كريم لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينجب عيالًا، ولا يمارس حياة طبيعيَّة مشحونة بالمهمَّات والضَّجر؛ إذا تزوَّج "أبو ضفائر" من "العائشة في الوهم" حتمًا سينهيان قصَّتهما بالطَّلاق!

عدم جريان دم الحياة في عروق العلاقات العاطفيَّة في هذا العصر، أيًّا كان نوعها، سببه ما يطلقون عليه "المساواة بين الرَّجل والمرأة"؛ قرَّر الـ"كيوت" أن يُصدِّق المقولة فصيَّر قلبه مساويًا لقلبها، ولسانه مساويًا للسانها، حتَّى أعمال الحب المخصوصة بالرَّجل حملت المرأة أعباء القيام بنصفها! تزهق المرأة من الرَّجل "الطَّري"، قد يعجبها في "البدء" لكنَّها تلطم صدغيها بكفَّيها عند "المنتهى". الرَّجل الحقيقي هو الرَّجل المسيطر "الحمش"، الذي "يشخط وينطر" وقت لزوم "الشَّخط والنَّطر" ثم يُصالح بليونة، يعز قدر وليفته، يمنحها كلمة الحب كقطرة مطر الصَّيف العزيز، لكنَّها تستقبله بفرحة أرض ظمآنة، وإذا جدَّ الجد، وباهى الرِّجال  بزوجاتهن توَّجها ست السِّتات.

قلبت الزوجة الخاضعة للتَّرويض السَّطح رأسًا على عقب، ولا بطِّيخة واحدة، بكت، لكنها عادت إليه، وقفت أمامه غير قادرة على النطق، لكنها همست: البطِّيخة كبيرة ومش قادرة أشيلها.

قال: بلاها بطِّيخ الليلة دي، تعال نام في ريحي يا قمر.

 النِّساء في نجوعنا يحكين هذه الحكايات، يستنكرن تجبُّر المرأة على زوجها، ينتصرن له، الواحدة منهن تتيه برجلها الحازم، إذا أرادت تهييج الغيظ في قلب غريمة فاخرتها بأنَّها زوجة رجل لا يمكنها الكلام بعد كلامه، ولا الشُّورى بعد شورته.

المرأة تنصح ابنها، المقبل على الزَّواج، بضرورة ذبح القطَّة لعروسه قبل الدُّخول بها: إوع يا ولدي تقولَّها كلام ناعم الليلة دي، إوع، هاتركبك حمار وتدلدل رجليها، أنا مَرَة وعارفه طبع الحريم، اضربها قبل، وبعدين خد حلالك.

والحق أنَّ كلام جدَّاتنا منفرٌّ بغيض، مثل مبيد الحشرات، ستكره رائحته المسترجلات المأفونات، التَّائهات في أودية المساواة المهلكة، الضَّالات في فيافي تحدِّي فكرة قوامة الرِّجال. 

لكن المبيد، رغم رائحته الكريهة، ينقذنا فعلًا من الحشرات!

كلام جدَّاتنا ليس خاليًا من الحقيقة؛ التَّجارب الإنسانيَّة التي نعايشها، يوميًّا، تؤكِّد على إنَّه لم يسارع أحدهم، وهو لم يزل بعد في أوَّل العلاقة العاطفيَّة، إلى التَّعبير عن انبهاره بحبيبة قلبه، وكيف أنَّها أحيته بعد موات، وأنها نور عينيه في الظُّلمات، و"نخاشيش مراخينه" في بساتين الزُّهور، و و و.... إلا و رأى النِّهاية السَّوداء لهذه العلاقة رأي العين؛ فراق بعد حياة مُعذَّبة!

استمتعت الزَّوجة برجولة زوجها "الحِمِش"، شعرت بأنَّها تواءمت مع نفسها كأنثى لا تكتمل إلَّا لإذا اندمجت برجل قوي، يمكنه قيادة سفينتها بحكمة ورشاد عن اشتداد العواصف، وعند هدوء النَّوات يُبهج قلبها بجمال الإبحار وسيولته؛ أحبَّته فأحبَّت الرُّكون إليه، والسُّكون معه، والطَّاعة له، ونبذت الافتراء عليه.

جاء وقت تطليقها كي تعود إلى عصمة زوجها القديم. أتصوَّر أنَّها رفضت الطلاق تمامًا، وأنَّها رجته ألَّا يفعل، وأنَّه احتار بين إنفاذ وعده لصديقه، وبين "الطَّرمخة" من أجل الاحتفاظ بزوجة باهرة الجمال صارت طيبة العشرة. وإنَّه "طرمخ" بالتأكيد!

في فيلم "ابن حميدو"، ظل "عبدالفتَّاح القصري" زوجًا طيِّبًا طيِّعًا لزوجة مفترية، لا يعجبها منه العجب، رغم انصياعه الكامل لها، وما إن صفعها، قرب نهاية الفيلم، رفضًا لتسلِّطها، حتَّى أطلقت زغرودة طويلة من فرط فرحتها بـ"الحمشنة" المفاجئة التي أبداها زوجها!

الحكاية الشَّعبية رفضت تصوُّري لنهايتها. قالت أميِّ إنَّ المرأة عادت، حسب الخطَّة إلى زوجها القديم، بعد انتهاء هيصة الفرح، ساق العريس زوجته إلى غرفة النَّوم، فرأت قطَّة تنام في الفراش، "زغرت" في عيني زوجها وقالت بعجرفة المتسلِّط: قطَّة في فراشي؟!

نهر الرَّجل القطَّة فلم تحرِّك ساكنًا، أخرج مطواة من جيبه وذبح القطَّة، رأت المرأة المنظر فغرقت في دوَّامة من الضَّحك السَّاخر، وقالت له: والَّنبي يا دلُّوعة أمَّك لو دبحت أسد ما انا مصدَّقاك، دا انا عاجناك وخابزاك.

ثم شخطت فيه شخطة مهولة: اطلع السطح هات لنا بطيخة ناكلها، وإيَّاك ترجع تقولِّي البطِّيخة كبيرة ومش قادر تشيلها!

  

 

 

سيِّدُك المُفضَّل

داخل كل منَّا شغف بالعبوديَّة، تختلف نسب الولع بهذا الشَّغف من شخص لآخر؛ فقد يعشق أحدنا ذلَّ الاسترقاق حدّ عدم الخجل من الانبطاح له علانيَّة، والهتاف بحياة مُستعبده، وقد يبقى شغف العبوديَّة في إنسان آخر مجرَّد بذرة، يحرص على ألَّا يلحقها ماء حتَّى لا يترعرع نبتها الشَّيطاني في قلبه.

وقد عبَّر الممثل الأمريكي الأسود صامويل جاكسون، قام بدور ستيفن في فيلم "جانغو" المُتحرِّر، عن النَّوع الأوَّل من المصابين بشغف العبوديَّة؛ إذ أخلص لسيِّده كالفن، الإقطاعيُّ الأبيض، إخلاصًا قميئًا، درجة مشاركته في عمليات قهر، وبيع، رفاقه من الخدم السُّود، بل والاستمتاع باحتقارهم! في المقابل لم يتوان كالفن عن منح ستيفن العظْمة التي تروق للكلاب، مزايا ضئيلة لا قيمة لها، ومع ذلك كانت تُشعر ستيفن بتميُّزه عن بقيَّة السُّود، ليتصاعد عنفه ضد لونه أكثر وأكثر إلى أن يُقتل في النِّهاية وفيًّا لمُستعبده، ناقمًا على بني جلدته!

بينما مثَّل فريدريك دوجلاس، مؤلِّف كتاب "مذكِّرات عبد أمريكي"، الذي نقله الرِّوائي المصري إبراهيم عبدالمجيد إلى اللغة العربيَّة بصياغة سلسة، هذا الصِّنف الإنساني الذي يحاول جاهدًا كبت عبوديَّته لصالح حرِّيته، رغم أنَّ جلَّ ظروفه تهيِّئه ليصبح نسخة أخرى من ستيفن؛ يرفض فريدريك الاستعباد، يهرب مخاطرًا بحياته من الجنوب الأمريكي المتفشِّية فيه تجارة العبيد، إلى الشَّمال المناهض لهذه التِّجارة الدَّنسة، ليصير هناك أحد أهم الأصوات السَّوداء الجهوريَّة المطالبة بتحرير العبيد.

أوَّل تكوينات الإنسان تتم داخل رحم يحاصره في ذات الوقت يمنحه الغذاء الذي يمدّه بالحياة! وأوَّل تربية للإنسان تتم داخل أسرة تحاصره في ذات الوقت تمنحه الرِّعاية الدَّائمة لممارسة الحياة! ثم ينطلق شابًّا عفيًّا ليكتشف أنَّه يمارس الحياة في حصار من شروطها، وأنَّه لا سعادة دون حزن، لا راحة دون شقاء، لا غناء دون فقر، لا نهار دون ليل، لا حريَّة دون استعباد! لا يمكن التَّعامل مع طرف دون طرف، لا يمكن نبذ طرف دون طرف، لا حب طرف دون طرف، لا وجود لهذا الكون بطرف دون طرف! ثمَّ ينتهي الإنسان شيخًا مؤمنًا بأنَّه لا بد من الخضوع لحصار الموت، وضمَّة القبر، من أجل العبور نحو حياة أخرى رغدة، سعيدة، إلى اللامنتهى.

تكويننا الدَّاخلي مستعد إذن للتَّعامل برحابة صدر مع القيمة "النِّيجاتيف" في سبيل الحصول على أكبر قدر من المكاسب النِّسبية، سواء كانت هذه المكاسب ماديَّة أو معنويَّة!

كتب فردريك دوجلاس في "مذكِّرات عبد أمريكي" الآتي: كان العبيد حين يُسألون عن أحوالهم يقولون إنَّهم راضون. وإنَّ أسيادهم طيِّبون. ولقد عرف ملَّاك العبيد كيف يُرسلون الجواسيس بين عبيدهم ليتأكَّدوا من آرائهم ومشاعرهم، نتج عن ذلك أن تأسَّس بين العبيد المثل القاتل "الصَّمت رأس الحكمة"، صاروا يقمعون الحقَّ في نفوسهم بدلًا من تلقِّي تبعات البوح به، فبهذا يُثبِّتون أنفسهم، في نظر أسيادهم، كجزء من الجنس البشري، وهكذا فإذا كان لدى العبيد شيءٌّ يقولونه عن أسيادهم فهو عمومًا يدور حول جمائل هؤلاء الأسياد..

في فيلم "جانغو" المُتحرِّر، استطاع البطل الأسود استعادة زوجته من براثن كالفن بعد معركة، بالسِّلاح الخفيف، أدَّت إلى مصرع هذا الإقطاعي الأبيض، لكن عبده ستيفن يحمل لواء الثَّأر له، ويُقاتل أسودًا مثله حتى يُقتل!

أيُّ لذَّة في العبوديَّة تدفع النَّاس إلى التَّخلص من حياتهم طواعية لا لشيء سوى الصِّراع من أجل الأسياد، أو أفكار الأسياد؟

أيُّ لذَّة في الشُّعور بـ"الانتماء" في حين أنَّ الانتماء ليس غير وجه آخر من وجوه الاستعباد، أو لجام يُوضع في فم الإنسان من أجل الانقياد لشروط مجتمعه؟!

التَّعصب!

ابحث عن التَّعصُّب.

كتب فريدرك دوجلاس: تحت تأثير التَّعصب اعتقد بعض العبيد أنَّ أسيادهم أفضل من أسياد العبيد الآخرين.. ولقد شاع الشِّجار بين العبيد حول فضائل أسيادهم، فكل فريق كان راضيًا عن الطِّيبة الفائقة لسيِّده، يُقرِّر عبيد الكولونيل اللويد أنَّه الأغنى، ويتباهى عبيد جيبسون بأنَّه الأكثر أناقة ورجولة، عبيد الكولونيل اللويد يفاخرون بقدرته على بيع وشراء جيبسون نفسه، وعبيد جيبسون يفاخرون بقدرته على جلد الكولونيل اللويد.. مماحكات تنتهي غالبًا بقتال بين فريقي العبيد، والفائزون يعتزُّون بأنَّهم حازوا نقطة، ويبدون وكأنَّهم قد اقتنعوا بأنَّ عَظَمة سيِّدهم قد حلَّت بهم!

وبعد الانتهاء من هذه المنافسة، وانفصال الفريقين، يتذكَّر جميعهم أنَّهم، على الحقيقة، يحملون قدرًا كبيرًا من الكره لأسيادهم، هؤلاء الذين لا يكفُّون عن جلد ظهورهم، وتجويعهم، واستغلالهم طول النهار والليل، دون راحة، من أجل جودة مزارعهم.

لكنَّهم إذا التقوا غدًا فإنَّهم يواصلون نفس المماحكة، والتَّغزُّل في القدرات النَّبيلة لأسيادهم!

هه عزيزى: هل لديك سيِّد مفضَّل لا تفتأ تلهج بقدراته النبيلة؟

لا تكن سريع الإجابة، لا تأخذك الحمية فتصرخ: لا.

فقط ابحث في أعماقك جيدًا، ابحث برويَّة وصبر، صدِّقني حين أقول لك: ستجد سيِّدًا لا محالة.


  

     

المسيحيُّ الأخير 

قبل خمس وأربعين سنة ضمَّ نجع الخمايسة، التَّابع إداريًا لمركز جهينة محافظة سوهاج في صعيد مصر، بين ما ضمَّه من بيوت قليلة بَيتَين مسيحيِّين لأخوين شقيقين، اسم أكبرهما جِندي، واسم الآخر فهيم، كلاهما يصرفان على امرأة وعيال؛ ولأنَّ أيًّا منهما لم يمتلك من الأرض غير بضعة قراريط، هزيلة، فقد بقي الفقر يلبد في بيته، يعوله كأحد أفراد أسرته.

لم يكن النَّاس ينادون فهيم باسمه، بل بلقب عجيب أدهش طفولتي الصَّغيرة كثيرًا؛ "الجرَّار"!

عمِّي عبدالله امتلك عدَّة فدادين وفَّرت له اليُسر، كما أنَّه أُسطى ماكينة الرَّي الألمانيَّة الصِّناعة، ماركة "آلان"، التي لم يُر مثلها في البلاد، بالإضافة إلى أنَّه أحد ملَّاكها، ثم هو ابن شيخ بلد يخبز فرن بيته أرغفة العيش من دقيق لا تشوبه الردَّة، يأكلها النَّاس، ويخبز أرغقة البتَّاو من ردَّة لا يشوبها دقيق، تأكلها الكلاب؛ فهيم دائم الخدمة لعمِّي وبيته وغيطه، يرعى مصالحه بإخلاص وتفان عجيبين؛ سألت هذا العمّ بصوتي المسرسع وقتها: هو ليه بينادوا على عمِّ فهيم يا "جرَّار"، مش يا عمّ فهيم؟

قال: عشان فهيم دا فيه قوَّة زي قوَّة الجرَّار الرُّوماني.

كان الجرَّار الرُّوماني آلة زراعية ينظر لها الفلَّاحون، في سبعينيَّات القرن المنصرم، على أنَّها جنِّي مارد عملاق ساحر، قادر على حراثة الفدادين العديدة في ساعة قليلة! ودراسة محاصيل الغلال في أوقات قصيرة قياسيَّة، بأدنى مجهود، وأقل تعب!

فعلا، كان فهيم يتمتع بجسد فارع التَّكوين، متناسق التركيب، مع سرعة إنجاز.

لفت عمِّي انتباهي إلى أنَّه من العيب استباق اسم فهيم بلفظة "عم"، فهذا الرَّجل ليس مسلمًا، بل مسيحيًّا، أي ليس ممكنًا في أي يوم من الأيام أن يكون أخًا لوالدي كي يستحق هذا التَّخصيص، وقال: كمان احنا بدويَّاته!

ـ يعني إيه بدويَّاته؟

ـ بيقولوا إن العرب زمان، اللي همَّا البدو يعني، كانوا بينزلوا على القرى ومعاهم سلاح وفرسان، وكان النَّصارى بتوعها بيدخلوا في حمى البدو عشان يحموهم، فبقي العرب "بدويَّات" النَّصارى، كل قبيلة أو بيت ليها النَّصارى بتوعها تدافع عنهم وهم يخدموها، والنُّصراني زمان ما كانش يقدر يعدِّي في البلد وهو راكب حمار، لازم ينزل من على ضهره احترامًا لبدويَّاته المسلمين!

لم أكد أنتهي من قراءة الصَّفحة الأولى من رواية "جومر.. جريمة في دير الرَّاهبات"، للكاتب المصري روبير الفارس، حتَّى شممت رائحة مظلوميَّة فهيم الجرَّار في نجع الخمايسة، المسيحيُّ الذي يعيش في وسط إسلاميٍّ ضاغط، يُضطهَد بكياسة فيصبر بلباقة رغم جروحه العميقة! على أنَّ "جومر" أفلتت من ورطة التَّحول إلى مجرَّد بكائيَّة منشوجة في إدانة اضطهاد المجتمع المسلم تُقرأ كرواية ذات غرض واضح، سهل، قراءة واحدة، ثم تنتهي علاقة القارئ بها قبل أن يبتلعها النِّسيان؛ بل يمكن اعتبار هذه الرِّواية أيقونة ثمينة بحق، لأنَّ قارئها، فور انتهائه منها، سيشعر بإزميلها ينقش في عقله سؤالًا عويصًا، وإن كان سبق طرحه لآلاف المرَّات من قبل فقد طُرح هنا بشكل مغاير، وإن كان اقتُرِحَت له آلاف الإجابات لكن ولا إجابة واحدة من بين هذه الآلاف أمكن وصفها بالحقيقيَّة: هل حوَّاء عين يشرب منها آدم، أم بئر يغرق فيها؟

رغم معاشرتي الطَّويلة، والعميقة، لجيراننا المسيحيِّين، ولأصدقاء عديدين مسيحيِّين، ظلَّ عالم هؤلاء مستغلقًا عليَّ كمسلم، فطقوسهم الحياتيَّة ليست على المشاع كطقوسنا، ولا صلواتهم تعصف بالأسماع عبر مكبِّرات الصَّوت ليل نهار كصلواتنا، ولا أعيادهم ظاهرة كأعيادنا، ومهما بلغت حميميَّة علاقة الجيرة بينهم والمسلمين فإنَّهم يظلُّوا حريصين على بقاء السُّور، الذي اعتادوا الاختباء خلفه طوال قرون الاضطهاد الطَّويلة المنصرمة، قائمًا عاليًا.

لم يكن فهيم يلقى الاحترام الكامل من أهل النَّجع المسلمين، وإن لم يفتقد محبَّتهم وتعاملاتهم الأخويَّة له، لكن أطفالهم بالخصوص لا يوقِّرونه، وإنَّما ينادونه باسمه مجرَّدًا، يأمرونه أمرًا بقضاء المصالح، في حين حرص أبي، الذي هذَّبه تحضُّر مدينة الأقصر، وكان قد انتقل للعمل فيها شُرطيًّا، على ألَّا أفعل مثل هؤلاء الأطفال، وألَّا أناديه بغير"يا عم فهيم"، فأحبَّني جدًّا، حتَّى حرص ذات مرَّة على دعوتي لزيارة بيته الذي يعيش فيه مع زوجته وعياله وفقره؛ إنَّه مجرَّد جحر لا يصلح إلَّا لتربية المرض، ولزراعة الكآبة، حتَّى هالة النُّور المحيطة برأس صورة المسيح، المرفوع إلى الآب شكاية، لم تتمكَّن من دفع ذرَّة ظلام واحدة بعيدًا عن فضاء هذا الجحر!

تكاد تكون نفسها المواصفات القميئة لبيت برسوم، الشَّخصية الرَّئيسيَّة لمعظم رواية "جومر"، فهو مكلوم بالفقر، وبالظُّروف السَّيئة، والأيام المعاندة، زوجته رحيل بائعة صور كنسيَّة وأيقونات مقدَّسة على الرَّصيف، يعاملها البوليس كموزِّعة منشورات تخل بالأمن العام! ابنته مريم تحصل على تخرُّج جامعي بحصيلة كبيرة من الدَّرجات، وتقدير ممتاز يؤهِّلها لتحقيق حلمها الوظيفي، مع ذلك يتم اضطهادها لصالح مسلم لا يمتلك إمكانيَّاتها! أمَّا جومر، ابنته الثَّانية، فيأتي اضطهادها مسيحيَّا بامتياز، إذ تقدَّم لخطبتها ابن قس، ثمَّ لمَّا رأى تحرُّرها النِّسبي فسخ الخطوبة ليوقِّع قلبها عقدًا مع الكآبة التي تقودها إلى غواية الإسلام! قبل ارتدادها عنه إلى دينها الأصلي، والالتحاق بأحد الأديرة، لتُقتل داخله!

برسوم في رواية جومر أشقى من فهيم في نجع الخمايسة، فلم ينجب فهيم ولدًا تشتهي مؤخِّرته دبيب الحيوانات المنويَّة مثلما تشتهي مؤخِّرة يوسف ابن برسوم، الذي تحمَّل معايرة الشُّذوذ لكنَّه لم يتحمَّل معايرة أحد المسيحيِّين له بإسلام أخته فيقتله، ويدخل السِّجن!

هذه الرِّواية مكتوبة بصدق، فقد شعرتُ تجاه هذه الأسرة المسيحيَّة "الافتراضيَّة" بنفس ما أشعر به تجاه أسر عديدة مسيحيَّة "واقعيَّة"؛ إنَّهم يعبرون الأيَّام بظهور محنيَّة، مهما أعلنوا المسرَّة في الأرض فإنَّهم تعساء، الحزن ملمح من ملامح وجوههم؛ فكيف يمكن لمن يرزح في الأغلال أن يفرح فرحًا حقيقيًّا غير مُدَّعى؟!

لكن حتَّى مسلمو "جومر" يرسفون في أغلال ما، مهما بدوا أسيادًا و"بدويَّات"، فإن كان بإمكان ولد مسلم اختراق مؤخِّرة يوسف بزنا اللواط، ليصير بعد ذلك مطيَّة كل شواذ المسلمين، فإنَّ فنَّانًا مسيحيًّا أمكنه الاستمتاع بجسد فاطمة، المسلمة التَّعيسة زوجة البوَّاب عبدالغني، بعد كل مرَّة رسم فيها عضوًا منها؛ رائحة بؤس فاطمة نفس رائحة بؤس فهيم، فمهما غيَّرت الأديان من أرواح البشر فإنَّها لا تغيِّر أجسادهم، إنَّها نفس المسام، ونفس العرق البائس.

مات جِندي شقيق فهيم فرحل أبناؤه عن النَّجع، وبقي "الجرَّار" ممثِّلًا للمسيحيَّة في الخمايسة بأسرة وحيدة، قليلة العدد، لم تتركه المصائب عند هذا الحد الصَّعب من الفقر، ورحيل الإعزَّاء، وهدد السَّند، بل واصلت ضربه، لتأتي الضَّربة الأخيرة في مقتل، إذ أصابت رأس ماله، صحتَّه وقوَّته البدنيَّة، اصطاده السُّكري اللعين.

في الجزء الثَّاني من كتاب "وصف مصر"، الذي أنهى علماء الحملة الفرنسيَّة كتابته منذ مائتي سنة تقريبًا، عدَّة دراسات عن القبائل العربيَّة التي اجتاحت مصر واستوطنتها، قدَّمت، هذه الدِّراسات، تفصيلات غاية في الأهميَّة عن هؤلاء البدو، وقسَّمتهم حسب تصرُّفاتهم مجتمعيًّا، وقدَّمت تفسيرات عدَّة عن كيفيَّات التَّمكين لهؤلاء البدو الرُّحل في أرض الحضارة حتَّى صاروا سادة البلاد والعباد، ولم تخرج هذه التَّفسيرات عن التَّصور البسيط الذي قدَّمه لي عمِّي عبدالله، الأمِّي؛ إنَّ سكَّان القرى المصريَّة من القبط النَّصارى استقبلوا هذه القبائل المحتشدة كالجراد، ترفع سيوفها، تحمحم أفراسها، استضافوها بسبب خوف شرخ قلوبهم عميقًا، والخائف مُستعبَد، بينما مرهوب الجانب سيِّد وإن رغمت أنوف! لكن المُستعبَد ليس كالعبد، العبد يعيش ويتكاثر، أمَّا المُستعبَد فإنَّه يضمحل أسىً وحزنًا حتَّى الانقراض.

يترك روبير الفارس "برسوم" معانيًا زمنه العصري، ممزَّقًا بأوجاعه كبائع جوَّال داخل مترو العاصمة، ليرتحل داخل الزَّمن إلى بعيد جدًّا، حيث الاضطهاد الرُّوماني؛ وهنا تنجح روايته في الإفلات، لمرَّة ثانية، من التَّحوُّل إلى مرثيَّة في هجاء الاضطهاد، لتصير مقطوعة بديعة منحوتة في أجواء ترفل بالسُّؤال الأزلي، وربَّما الأبدي، عن مكان المرأة من الرَّجل؛ هل هي الماء الذي يحييه أم الذي يغرقه؟! يكتب الفارس هذا الفصل من روايته بسلطنة مسيحيٍّ حر، وبفروسيَّة رسول يمتطي فرسًا تدهس تنِّين الشَّيطان، وبعزف لغوي مُستقى من أمَّهات كتب القداسة الكهنوتيَّة، حتَّى لتكاد ترى الملائكة تقرأ هذا الفصل الطَّويل من رواية "جومر" بشغف سعيد؛ ليس لهذا الفصل علاقات وشيجة ببقيَّة الرِّواية، جذوره ليست ضاربة في قلب حبكتها الأصليَّة، وهذا في غير هذه يمكن اعتباره خرقًا روائيًّا بشعًا، لكنه هنا بمثابة تاج على رأس، ليست للتَّاج جذورًا ضاربة داخل الجمجمة، مع ذلك يُضفي على المُتوَّج به بهاءً وسيادة.

تلقَّى فهيم مظلوميَّة جديدة، فعلًا اضطهاديًّا وقحًا، إذ قرَّر مسلم من أهالي النَّجع، ضابط صف بالجيش على المعاش، لا يترك المصحف من يده، يصلِّي بالمسلمين إمامًا، يشارك فهيم حدَّ الحقل، الاستيلاء على قراريطه القليلة تحت سمع وبصر الجميع، فنزل عليه بالمضايقة تلو الأخرى، ما اضطر فهيم، الذي لا قوَّة له ولا سند، إلى التَّنازل عن أرضه بأبخس ثمن!

كأنَّ ما حدث لقطة من الجزء الثَّاني للسِّفر الفرنسي العظيم "وصف مصر"؛ إنَّها حالة استيلاء مسلم عصري يحمل نفس فظاظة البداوة الأولى على ممتلكات مسيحي يحمل نفس روح القبطي القديم المستكين!

 كره فهيم نجعه الذي وُلد ووَلِد وعاش فيه لأكثر من ستِّين سنة، ترك بيته الجحر، ارتحل إلى قرية أخرى لا ذكريات له فيها ولا معارف، حيث انتظر هناك موته مجترًّا اضطهاداته بهدوء لشهور قليلة قبل أن يلقى حتفه غريبًا، كما عاش غريبًا! لتخلو الخمايسة من مسيحيِّها الأخير!

"جومر" رواية قصيرة، لكنَّها طويلة التَّأثير، كتبها عاشق حقيقي للكتابة، تبقى في الذِّهن عامرة بجماليَّاتها، صارخة بنقوشاتها، تمامًا كما بقي بيت فهيم في الخمايسة عامرًا بصمت رجل مهاجر، لم ير في الأرض مسرَّة، فحلَّق بروحه إلى الأعالي، علَّه يجد عند الآب مجدًا يُعزِّيه.

 

 

كُتب في "القاهرة" بين عامي 2015م،2016م.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة